> عيسى محمد المساوى
يمكن القول إن الرياض أصبحت اليوم أكثر اقتناعا من أي وقت مضى بفشل الخيار العسكري في اليمن وأنه لا مناص من الدخول في مفاوضات مباشرة مع صنعاء بقيادة أنصار الله الذين أثبتوا عمليا قدرتهم على توجيه ضربات قاصمة على امتداد الجغرافيا السعودية.
جاء هذا التحول عقب الضربة التي استهدفت منشآت أرامكو "بقيق – خريص" في 14 سبتمبر الماضي، ومنذ أواخر سبتمبر والرياض تجري مفاوضات غير معلنة مع أنصار الله دون أن تحقق تقدما يستحق الذكر، كما جاء على لسان محمد علي الحوثي عضو المجلس السياسي الأعلى وأحد أهم صناع القرار، ويبقى السؤال المحوري: هل تنجح الرياض في الوصول بهذه المفاوضات السرية إلى إنهاء الحرب الأعلى كلفة في تاريخ السعودية؟
الإجابة على هذا السؤال بـ "نعم" تعتمد بدرجة رئيسية على مدى استيعاب صانع القرار السعودي لتعقيدات الحالة اليمنية، فاليمن لاعتبارات عدة خصوصا الجيو سياسية تحولت إلى ساحة صراع بين أجندات قوى عدة معظمها تكن العداء للرياض وتطمع في إفشال هذه المفاوضات لتستمر الحرب بهدف تحقيق المزيد من استنزاف السعودية سياسيا وعسكريا واقتصاديا وعلى مختلف الصعد، ولو قدر لتلك القوى أن تُغرق السعودية في مستنقع هذه الحرب إلى أن يسقط النظام وتتقاسم تركته لما ترددت في تسخير الإمكانات اللازمة لتحقيق هذه الغاية التي يلتقي عندها كل الخصوم، فالسياسات العدائية التي استهدفت أمن واستقرار قطر وتركيا وإيران والحقت الدمار والفوضى في سوريا والعراق وكبدت روسيا كلفة عالية للدفاع عن مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة كل ذلك يضع الرياض في مواجهة جبهة عريضة من الخصوم على اختلاف أحجامهم وأوزانهم ودوافعهم الانتقامية، فصنعاء الأكثر تعقلا في إدارة الصراع لو أنها تحركت بدافع الانتقام وفتحت المجال واسعا أمام الخصوم لتصفية حساباتهم مع الرياض لكانت المحصلة مختلفة كل الاختلاف عما نشاهده اليوم، وهذا ما يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار لدى صانع القرار السعودي.
على الجهة المقابل نجد أن صنعاء بملامحها الجديدة باتت هي الأخرى أمام تغير حتمي في خارطة الحلفاء والخصوم، فالقوى المتضررة من بروز صنعاء كقوة إقليمية صاعدة ستبدأ بالظهور تباعاً على خارطة الخصوم الذين يجدون في استمرار الحرب فرصة لإضعاف هذه القوة الصاعدة بوصفها خطرا مستقبليا على مشاريعهم الإستراتيجية في المنطقة، وبالمقابل هناك قوى من الوزن الثقيل سترى في هذه القوة الصاعدة بمقوماتها وموقعها الإستراتيجي حليفا مهما لا غنى عنه، وهو ما يعكس مستوى التعقيد الذي يكتنف الملف اليمني.
الأمر الآخر أن الأهمية الكبرى للصراع القائم بذاته وبما ترتب عليه من متغيرات جعل قوى إقليمية ودولية تحرص على أن تكون هي بوابة الحل لهذا الملف بالغ التعقيد طمعا في جني الثمار أو رغبة في استثمار الملف اليمني بما له من أهمية وثقل في تصفية ملفات عالقة على مستوى المنطقة، وهو ما ينطبق على موقف أمريكا المعيق لتقدم المفاوضات في مسعى لربط الملف اليمني بحل خلافاتها مع إيران بما يجسده هذا الربط من انتهازية واضحة تراعي المصلحة الأمريكية وتجعل مصالح حليفتها أكثر عرضة لخطر الاستهداف.
هكذا تجد الرياض نفسها أمام مسارات تفاوضية بعضها انتهازي صرف لا يكترث لحساسية المرحلة والمخاطر المترتبة على فشل العملية التفاوضية والبعض الآخر كلفته عالية جدا، لتبقى المسارات السالكة والأقل كلفة منحصرة في القنوات المفضية مباشرة إلى رأس الهرم ومرجعية القرار النهائي في صنعاء.
هذه الملامح التي يمكن من خلالها تلمس باقي أوجه التعقيدات التي تكتنف الملف اليمني تضع عددا من المتطلبات التي لا يمكن بدونها الاختراق الناجح لكل تلك التعقيدات والوصول بالمفاوضات إلى نهايتها المنشودة،
فإلى جانب حاجة الرياض الملحة لإحاطة المفاوضات بأعلى درجات السرية واختيار المسار التفاوضي السالك والأقل كلفة، هناك المتطلب الأهم على الإطلاق وهو امتلاك الرياض الإرادة السياسية القادرة على اتخاذ قرارات شجاعة للخروج من مستنقع اليمن مهما كان الثمن، تلك القرارات المستعدة لتحمل كلفة الخروج الاضطراري عن المظلة الأمريكية عندما تتعرض المصالح العليا للخطر وهو ما يعيد إلى الأذهان خروج الرياض الاضطراري عن دورها المرسوم في مصر أثناء موجة الربيع العربي الذي أسفر عن إسقاط نظام مرسي وتصعيد السيسي في انقلاب واضح المعالم على الإرادة الأمريكية، من المرجح أن الملك عبدالله دفع لأمريكا ثمن هذا الخروج المؤقت لكنه بالمقابل نجح في وقف خطر تنظيم الإخوان المسلمين الذي أخذ يتهيأ للزحف على دور ومكانة المملكة بإيعاز من تركيا التواقة لاستعادة مكانتها في المنطقة العربية.
إن غياب الإرادة السياسية يمثل اليوم العقدة الأبرز التي يبدو معها نجاح المفاوضات الجارية هو الخيار الأقل حظا، فصانع القرار السعودي ليس في وارد الخروج الاضطراري عن المظلة الأمريكية على الأقل في الوقت الراهن، والرسائل القادمة من صنعاء توحي بقرب الإعلان الرسمي عن فشل المفاوضات مع الرياض وتؤكد في ذات الوقت الجهوزية التامة لمرحلة تصعيد حاسمة وأخيرة لإنهاء هذا العدوان الممتد منذ مارس 2015م.
مشكلة الرياض أنها تفاوض بمعزل عن معطيات الواقع فهي تريد هدنة مفتوحة تضمن عدم تكرار ما حدث لمنشآت أرامكو "بقيق – خريص" مع إبقاء حصارها لمطار صنعاء وميناء الحديدة، وهو ما يعني تعطيل أوراق صنعاء الرابحة وإبقاءها تحت الحصار وترك الباب مفتوحا لاستئناف عدوانها متى ما وجدت الفرصة سانحة الأمر الذي لا يمكن قبوله من صنعاء، فالأخيرة باتت أكثر إدراكا لنقاط ضعف الرياض وحاجتها الملحة لهدنة طويلة تمكنها من لملمة ما تبقى من قواها المبعثرة واستضافة قمة العشرين لعلها تنعش معنوياتها المنهارة وتسهم في تحسين صورتها المشوهة، ولا أظنها تنال هذا المكسب التفاوضي ما لم تلبي الحد الأدنى من شروط صنعاء التي تبدو أكثر ثقة بقدرتها على فرض شروطها بهذه الطريقة أو بتلك.
هكذا تبدو الرياض في ورطة كبرى لا فكاك من مخاطرها المحدقة إلا بالخروج الاضطراري عن المظلة الأمريكية وإنهاء الحرب في اليمن، وهذا ما يقول به العقل والمنطق وحسابات المصلحة، فالبقاء على حالة المقامرة والانقياد الأعمى وراء الرغبة الأمريكي التي لا تراعي إلا مصالحها فقط يمثل مجازفة خطيرة من شأنها أن تعرض السعودية لمخاطر محققة، ولأن المنطق والعقل كانا خارج منهجية صانع القرار السعودي على امتداد سنوات العدوان على اليمن فإن السيناريو الأكثر دماراً للمملكة يوشك أن يتصدر المشهد بانتظار الإعلان الرسمي عن فشل المفاوضات.
"رأي اليوم"
جاء هذا التحول عقب الضربة التي استهدفت منشآت أرامكو "بقيق – خريص" في 14 سبتمبر الماضي، ومنذ أواخر سبتمبر والرياض تجري مفاوضات غير معلنة مع أنصار الله دون أن تحقق تقدما يستحق الذكر، كما جاء على لسان محمد علي الحوثي عضو المجلس السياسي الأعلى وأحد أهم صناع القرار، ويبقى السؤال المحوري: هل تنجح الرياض في الوصول بهذه المفاوضات السرية إلى إنهاء الحرب الأعلى كلفة في تاريخ السعودية؟
الإجابة على هذا السؤال بـ "نعم" تعتمد بدرجة رئيسية على مدى استيعاب صانع القرار السعودي لتعقيدات الحالة اليمنية، فاليمن لاعتبارات عدة خصوصا الجيو سياسية تحولت إلى ساحة صراع بين أجندات قوى عدة معظمها تكن العداء للرياض وتطمع في إفشال هذه المفاوضات لتستمر الحرب بهدف تحقيق المزيد من استنزاف السعودية سياسيا وعسكريا واقتصاديا وعلى مختلف الصعد، ولو قدر لتلك القوى أن تُغرق السعودية في مستنقع هذه الحرب إلى أن يسقط النظام وتتقاسم تركته لما ترددت في تسخير الإمكانات اللازمة لتحقيق هذه الغاية التي يلتقي عندها كل الخصوم، فالسياسات العدائية التي استهدفت أمن واستقرار قطر وتركيا وإيران والحقت الدمار والفوضى في سوريا والعراق وكبدت روسيا كلفة عالية للدفاع عن مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة كل ذلك يضع الرياض في مواجهة جبهة عريضة من الخصوم على اختلاف أحجامهم وأوزانهم ودوافعهم الانتقامية، فصنعاء الأكثر تعقلا في إدارة الصراع لو أنها تحركت بدافع الانتقام وفتحت المجال واسعا أمام الخصوم لتصفية حساباتهم مع الرياض لكانت المحصلة مختلفة كل الاختلاف عما نشاهده اليوم، وهذا ما يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار لدى صانع القرار السعودي.
على الجهة المقابل نجد أن صنعاء بملامحها الجديدة باتت هي الأخرى أمام تغير حتمي في خارطة الحلفاء والخصوم، فالقوى المتضررة من بروز صنعاء كقوة إقليمية صاعدة ستبدأ بالظهور تباعاً على خارطة الخصوم الذين يجدون في استمرار الحرب فرصة لإضعاف هذه القوة الصاعدة بوصفها خطرا مستقبليا على مشاريعهم الإستراتيجية في المنطقة، وبالمقابل هناك قوى من الوزن الثقيل سترى في هذه القوة الصاعدة بمقوماتها وموقعها الإستراتيجي حليفا مهما لا غنى عنه، وهو ما يعكس مستوى التعقيد الذي يكتنف الملف اليمني.
الأمر الآخر أن الأهمية الكبرى للصراع القائم بذاته وبما ترتب عليه من متغيرات جعل قوى إقليمية ودولية تحرص على أن تكون هي بوابة الحل لهذا الملف بالغ التعقيد طمعا في جني الثمار أو رغبة في استثمار الملف اليمني بما له من أهمية وثقل في تصفية ملفات عالقة على مستوى المنطقة، وهو ما ينطبق على موقف أمريكا المعيق لتقدم المفاوضات في مسعى لربط الملف اليمني بحل خلافاتها مع إيران بما يجسده هذا الربط من انتهازية واضحة تراعي المصلحة الأمريكية وتجعل مصالح حليفتها أكثر عرضة لخطر الاستهداف.
هكذا تجد الرياض نفسها أمام مسارات تفاوضية بعضها انتهازي صرف لا يكترث لحساسية المرحلة والمخاطر المترتبة على فشل العملية التفاوضية والبعض الآخر كلفته عالية جدا، لتبقى المسارات السالكة والأقل كلفة منحصرة في القنوات المفضية مباشرة إلى رأس الهرم ومرجعية القرار النهائي في صنعاء.
هذه الملامح التي يمكن من خلالها تلمس باقي أوجه التعقيدات التي تكتنف الملف اليمني تضع عددا من المتطلبات التي لا يمكن بدونها الاختراق الناجح لكل تلك التعقيدات والوصول بالمفاوضات إلى نهايتها المنشودة،
فإلى جانب حاجة الرياض الملحة لإحاطة المفاوضات بأعلى درجات السرية واختيار المسار التفاوضي السالك والأقل كلفة، هناك المتطلب الأهم على الإطلاق وهو امتلاك الرياض الإرادة السياسية القادرة على اتخاذ قرارات شجاعة للخروج من مستنقع اليمن مهما كان الثمن، تلك القرارات المستعدة لتحمل كلفة الخروج الاضطراري عن المظلة الأمريكية عندما تتعرض المصالح العليا للخطر وهو ما يعيد إلى الأذهان خروج الرياض الاضطراري عن دورها المرسوم في مصر أثناء موجة الربيع العربي الذي أسفر عن إسقاط نظام مرسي وتصعيد السيسي في انقلاب واضح المعالم على الإرادة الأمريكية، من المرجح أن الملك عبدالله دفع لأمريكا ثمن هذا الخروج المؤقت لكنه بالمقابل نجح في وقف خطر تنظيم الإخوان المسلمين الذي أخذ يتهيأ للزحف على دور ومكانة المملكة بإيعاز من تركيا التواقة لاستعادة مكانتها في المنطقة العربية.
إن غياب الإرادة السياسية يمثل اليوم العقدة الأبرز التي يبدو معها نجاح المفاوضات الجارية هو الخيار الأقل حظا، فصانع القرار السعودي ليس في وارد الخروج الاضطراري عن المظلة الأمريكية على الأقل في الوقت الراهن، والرسائل القادمة من صنعاء توحي بقرب الإعلان الرسمي عن فشل المفاوضات مع الرياض وتؤكد في ذات الوقت الجهوزية التامة لمرحلة تصعيد حاسمة وأخيرة لإنهاء هذا العدوان الممتد منذ مارس 2015م.
مشكلة الرياض أنها تفاوض بمعزل عن معطيات الواقع فهي تريد هدنة مفتوحة تضمن عدم تكرار ما حدث لمنشآت أرامكو "بقيق – خريص" مع إبقاء حصارها لمطار صنعاء وميناء الحديدة، وهو ما يعني تعطيل أوراق صنعاء الرابحة وإبقاءها تحت الحصار وترك الباب مفتوحا لاستئناف عدوانها متى ما وجدت الفرصة سانحة الأمر الذي لا يمكن قبوله من صنعاء، فالأخيرة باتت أكثر إدراكا لنقاط ضعف الرياض وحاجتها الملحة لهدنة طويلة تمكنها من لملمة ما تبقى من قواها المبعثرة واستضافة قمة العشرين لعلها تنعش معنوياتها المنهارة وتسهم في تحسين صورتها المشوهة، ولا أظنها تنال هذا المكسب التفاوضي ما لم تلبي الحد الأدنى من شروط صنعاء التي تبدو أكثر ثقة بقدرتها على فرض شروطها بهذه الطريقة أو بتلك.
هكذا تبدو الرياض في ورطة كبرى لا فكاك من مخاطرها المحدقة إلا بالخروج الاضطراري عن المظلة الأمريكية وإنهاء الحرب في اليمن، وهذا ما يقول به العقل والمنطق وحسابات المصلحة، فالبقاء على حالة المقامرة والانقياد الأعمى وراء الرغبة الأمريكي التي لا تراعي إلا مصالحها فقط يمثل مجازفة خطيرة من شأنها أن تعرض السعودية لمخاطر محققة، ولأن المنطق والعقل كانا خارج منهجية صانع القرار السعودي على امتداد سنوات العدوان على اليمن فإن السيناريو الأكثر دماراً للمملكة يوشك أن يتصدر المشهد بانتظار الإعلان الرسمي عن فشل المفاوضات.
"رأي اليوم"