> داليا داسا كاي
لماذا يتعاظم خطر التصعيد؟
لطالما لم تتكتم إسرائيل عن ميلها إلى ممارسة ضغط عسكري يمنع إيران من
التقدم في مشروعها النووي وتصدير السلاح، وفي برنامج تكنولوجيا طائراتها
المسيرة، أخيرا. لكن في الأشهر القليلة الماضية، يبدو أن ميل إسرائيل إلى
المخاطرة تفاقم.
وفي أوائل يناير ، عطلت ضربة إسرائيلية استهدفت جماعات مسلحة موالية لإيران داخل سوريا، الخدمة في مطار دمشق الدولي. وفي وقت لاحق من الشهر، أشارت التقارير إلى أن إسرائيل نفذت هجوما كبيرا بطائرة من دون طيار على موقع عسكري في مدينة أصفهان الإيرانية، ثم جهزت تل أبيب ردا انتقاميا على إيران، وهاجمت ربما أهدافا مدنية خارج البلاد.
والحق أن الهجمات الأخيرة هذه، تتمة لسلسلة من الضربات الانتقامية المتبادلة بين إسرائيل وإيران على مدى عقود من الزمن، من دون أن يتبناها طرف منهما، وذلك في ما يوصف بـ"حرب الظل" على الجبهات البرية والجوية والبحرية.
وشهدت الهجمات الإسرائيلية على برنامج إيران النووي تعليقا قصيرا عندما خرجت المفاوضات بين إيران والقوى الغربية إلى العلن في عام 2013. واستمر الهدوء إلى حين انسحاب إدارة ترمب، في عام 2018، من الاتفاق النووي الناجم عن تلك المفاوضات، والمعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة JCPOA.
لكن عهد ترمب أفسح مجالا أوسع أمام اتخاذ إسرائيل إجراءات أكثر صرامة، فكررت ضربها أهدافا نووية وغير نووية داخل إيران نفسها. ورحب معظم القادة الإسرائيليين بسياسة "الضغط الأقصى" التي انتهجتها إدارة ترمب، ثم تراجعت حدة هذا الموقف المتشدد والمشترك عندما تولى جو بايدن رئاسة الولايات المتحدة. فهذا لجأ، من جديد، إلى الدبلوماسية، وجدد الرغبة في إحياء الاتفاق النووي الإيراني، بيد أن الوضع في إيران وإسرائيل والولايات المتحدة يتغير الآن، ويزيد من خطر التصعيد مرة أخرى.
وقت أخطر لتنفيذ الضربات
وحين تولت إدارة بايدن السلطة ركزت على استعادة خطة العمل الشاملة المشتركة [الاتفاق الإيراني]. لكن، خلافا للمرات السابقة، لم توقف إسرائيل هجماتها على المواقع النووية الإيرانية في وقت كانت فيه الولايات المتحدة وشركاؤها يعدون لاستئناف العمل الدبلوماسي.
في البداية، بدا نهج إسرائيل العسكري تجاه إيران قابلا لاحتواء صانعي السياسة الأميركيين، وربما كان وسيلة مفيدة تدعو الإيرانيين إلى العودة إلى طاولة المفاوضات ويعظم التأثير الأميركي في صوغ شروط اتفاقية جديدة. وصار ينظر إلى المواجهات الإسرائيلية مع إيران على أنها حالة عادية ومألوفة في المشهد الإقليمي. وبدا أنه من الممكن التحكم في مخاطر الردود الانتقامية، وتبين أن الإيرانيين غير حريصين حرصا شديدا على الرد على الهجمات الإسرائيلية، وذلك في ضوء تركيزهم على تخفيف العقوبات بواسطة الدبلوماسية النووية.
وأسهم في حصول هذا التحول عدد من الاضطرابات الداخلية والجيوسياسية في أثناء العام الماضي، بما فيها الاحتجاجات الواسعة النطاق والمناهضة للنظام التي بدأت في إيران في سبتمبر الماضي، وفشل المفاوضات الرامية إلى إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة، وتوسيع العلاقات العسكرية الإيرانية الروسية التي توطدت جراء الحرب في أوكرانيا.
وتراهن واشنطن في هذه الحال على إبقاء المواجهة مع إيران منخفضة المستوى وعلى إمكان تجنب صراع ثنائي أو إقليمي أوسع. وتعتقد الحكومة الأميركية أيضا أن الردع ضروري من أجل تقييد تقدم طهران العسكري والنووي، في غياب الدبلوماسية.
وتعول الحسابات الإسرائيلية على أن نقاط الضعف الداخلية في إيران وعزلتها الإقليمية، فضلا عن إجراءات الردع العسكرية الإسرائيلية والأميركية المنسقة، قادرة على لجم ردود فعل طهران، ولكن التغيير الجيوسياسي الحالي قد يكذب الآراء السائدة هذه.
النهج التصادمي الإسرائيلي يكسب المعركة
وفي مثل هذه الأجواء، ستستمر القيادة الإيرانية المتشددة في رؤية الأعداء في كل زاوية، والدول المجاورة زاوية منها. وسبق أن شنت إيران هجمات في المناطق الكردية بالعراق، حيث نظمت مجموعات معارضة لإيران نفسها تاريخيا.
وتعتقد إيران أن عناصر كردية قد تكون متورطة في الهجوم الإسرائيلي الأخير على أصفهان. ومن المرجح أن يشن المزيد من الهجمات المدعومة من إيران في كردستان العراق، فتتعاظم الضغوط على السلطات في بغداد وعلى العاصمة الكردية أربيل، وتدعوها إلى قمع الجماعات المعارضة لإيران في وقت يشكو فيه الاستقرار العراقي من الهشاشة.
وعلى ما كان متوقعاً، اتهمت طهران إسرائيل بالتدخل في العمق الإيراني بغية إثارة الاضطرابات الداخلية. وسابقا، ردت إيران على إسرائيل باستهداف مواطنين إسرائيليين في دول أجنبية. وأحبطت إسرائيل عدداً من الخطط في العام الماضي، بما في ذلك محاولة لمهاجمة السياح الإسرائيليين في تركيا.
وإذا أدى هجوم في المستقبل إلى قتل عدد كبير من الإسرائيليين، فقد لا يكون ثمة بديل من تنفيذ انتقام إسرائيلي كبير من إيران. ومن غير الواضح كيف وأين يمكن أن ترد إيران، بيد أنه لا مفر من ذلك، ومن المرجح الآن أن تعتبر القيادة الإيرانية أن مثل هذه الأعمال الانتقامية تهدد النظام نفسه.
وأصبح الاطلاع على تطورات برنامج إيران ضيقاً كثيراً بسبب إلغاء طهران عمليات التفتيش النووي والمراقبة المطلوبة في خطة العمل الشاملة المشتركة. ويثير الأمر تساؤلات عن تلقي المجتمع الدولي التنبيه الوافي إذا قررت إيران عسكرة برنامجها النووي المدني.
ويستغرق الأمر وقتاً قبل أن يكون في مقدور إيران تطوير سلاح نووي، ولكن في غضون ذلك، قد يؤدي التشكك في شأن قدراتها ونواياها إلى زيادة حوافز إسرائيل على التفكير في اللجوء إلى الخيارات العسكرية من أجل تأخير البرنامج النووي أكثر مما فعلته الهجمات الإلكترونية وعمليات التخريب السابقة. ومن غير الواضح ما إذا كانت الولايات المتحدة تملك القدرة أو الإرادة على لجم هجوم إسرائيلي ارتأت تل أبيب أنها مستعدة لشنه.
وأضاف الغزو الروسي لأوكرانيا العام الماضي عنصراً جديداً مفاجئاً أسهم في تأجيج التصعيد. فعلاقة إيران العسكرية التي تتوطد أكثر فأكثر مع موسكو، ولا سيما إمداد روسيا بالطائرات المسيرة التي تستخدمها في مهاجمة البنية التحتية الأوكرانية، عززت الرأي الذي يعتبر إيران، ليس في واشنطن وحدها بل في أوروبا كذلك، قوة عدوة، بل إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يصف الاستهداف الإسرائيلي للمنشآت العسكرية في إيران، الوسيلة التي تستعين بها تل أبيب لمساعدة المجهود الحربي الغربي ضد روسيا (على رغم استبعاد أن تخفف مثل هذه الإجراءات المخاوف الغربية من تردد إسرائيل في تقديم دعم عسكري مباشر لأوكرانيا).
وفي الوقت نفسه يتسع نطاق التنسيق العسكري الأميركي مع إسرائيل. وهذه علامة أخرى على أن واشنطن لا توافق على المواجهة الإسرائيلية مع إيران فحسب، بل تدعمها دعماً نشيطاً. ففي أواخر الشهر الماضي، شارك الجيش الأميركي في مناورة واحدة مع إسرائيل حاكت ضربات هجومية بعيدة المدى.
وكانت هذه أكبر تدريبات من نوعها قام بها الجانبان. وربما صممت هذه المناورة من أجل عرض قدرات واشنطن على الاستجابة السريعة للأزمات الإقليمية، وإن مع سعي الولايات المتحدة لتقليص مرابطتها الدائمة في الشرق الأوسط. وكان الهدف من عرض القوة هذا طمأنة شركاء الولايات المتحدة إلى الالتزام الأميركي الثابت ضمان أمنهم.
ولا يمتنع تفسير تلك التدريبات على نحو أو معنى رسالة ردع لإيران، أو دليل على أن استخدام القوة العسكرية لا يزال خيارا لا تستبعده الولايات المتحدة. ومع إعلان كبار مسؤولي إدارة بايدن أن المفاوضات النووية لم تعد أولوية، يدل توقيت المناورات على تحول لا لبس فيه إلى اعتماد الردع كسياسة احتمالية راجحة للبلاد.
سوء الأمور إلى حد مروع
وفي ضوء اتفاقات السلام الأخيرة بين إسرائيل وبعض دول الخليج العربي، والمخاوف التي تتشاركها هذه الدول في شأن قدرات الصواريخ والمسيرات الإيرانية، قد تفترض واشنطن أن شركاءها العرب في الخليج يرحبون بالتحالف العسكري الأميركي مع إسرائيل، لكن حتى تلك الدول التي تتصدر السلام مع إسرائيل لا تبدي حماسة لممارسة ضغط عسكري متعاظم على إيران. فهي ترى نفسها، على الأرجح، هدفا للانتقام الإيراني يتقدم على إسرائيل، قياساً على الهجمات الإيرانية السابقة على منشآت النفط في دول الخليج العربي.
وبعد ضربة أصفهان، على سبيل المثال، قال أنور قرقاش، المسؤول الإماراتي البارز، إن الحادث كان "تصعيدا خطرا لا يصب في مصلحة المنطقة ومستقبلها". ولا شك في أن القيادة الجديدة في تل أبيب تعتبر الحكومة اليمينية الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل، واتخذت بالفعل خطوات أدت إلى تأجيج العنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين، الأمر الذي يضع القادة العرب الذين وافقوا على التطبيع في موقف صعب نظراً إلى المعارضة الشعبية الواسعة للسياسات الإسرائيلية.
وهذه البيئة المضطربة بشكل متزايد قد لا تحد من توسيع اتفاقيات التطبيع مع الدول العربية فحسب، بل قد تجعل الدول التي سبق وطبعت علاقاتها أكثر حذراً في شأن إقامة تحالفات عسكرية عامة مع الولايات المتحدة تشارك فيها إسرائيل. ورغم أن دول مجلس التعاون الخليجي متلهفة للعمل مع واشنطن في مجال الدفاع الصاروخي الإقليمي، ومعظمها يشارك إسرائيل مخاوفها من إيران، فإنها تبقي أبوابها مشرعة، في الوقت نفسه في وجه طهران.
واستضاف العراق والأردن قمماً إقليمية ضمت إيران في سياق "عملية بغداد" التي تدعمها فرنسا. وحذت الإمارات حذو الكويت، فرفعت مستوى العلاقات، وأعادت السفير إلى طهران الخريف الماضي بعد غياب دام ست سنوات. وحتى أقرب شركاء الولايات المتحدة، مثل الأردن طبعوا العلاقات مع حليف إيران الإقليمي، سوريا. وقد يسهم الزلزال المأسوي الذي حصل في تركيا وسوريا في ترجيح كفة هذا الاتجاه.
رهان واشنطن على المواجهة مع إيران
ولكن الردع ليس استراتيجية مضمونة النجاح. وعلى إدارة بايدن، وشركائها الأوروبيين أن تتأهب لمنع الهجمات محددة الأهداف من التحول، من غير قصد، إلى ضربات واسعة النطاق ومتواترة. وإذا فهم القادة الإيرانيون بعض الإجراءات الرادعة التي تتخذها إسرائيل أو الولايات المتحدة على أنها محاولات لإطاحة النظام، فقد لا يبقى الرد الإيراني محدوداً. وليس لدى روسيا سبب وجيه يدعوها إلى ضبط إيران في الوقت الذي تحارب فيه الغرب في أوكرانيا. وقد لا تكون الحرب الإقليمية وشيكة، لكن هذا لا يعني أن التصعيد العسكري لن يكون خطراً، ولن يرتب كلفاً طويلة الأجل.
والحفاظ على قنوات الاتصال مع إيران، في ظل غياب الدبلوماسية النووية وفي دوامة التصعيد العسكري، أمر بالغ الأهمية لإدارة الأزمات. والاتصال المباشر غير ممكن حالياً نظراً إلى حجم القمع المحلي داخل إيران، والمعارضة السياسية القوية للتعاون في واشنطن وطهران.
إلا أن شركاء الولايات المتحدة، مثل قطر وسلطنة عمان، يواصلون التوسط في قضايا مثل تبادل الأسرى. إذن، يمكن استخدام تلك القنوات للإبلاغ عن نوايا بهجمات عسكرية محددة، والمساعدة على تجنب صراع غير مقصود. وعلى عاتق الولايات المتحدة وأوروبا مهمة تطوير استراتيجية دبلوماسية لما بعد "خطة العمل الشاملة المشتركة". وفي غيابها، تملأ العمليات العسكرية الفراغ على نحو قد لا يؤدي إلى نتائج لمصلحة إيران، أو مصلحة المنطقة، أو المصالح الغربية.
* ترجمة "إندبندنت عربية" من فورين أفيرز، فبراير 2023
"داليا داسا كاي باحثة كبيرة في مركز بيركل للعلاقات الدولية بجامعة كاليفونيا في لوس أنجليس"