ها هي عدن على مشارف إعلان الاستقلال الثاني، فلم يعد بعد الميثاق الوطني خطوة سياسية تالية غير البيان الأول، وهو المنظور السياسي المقبل.
واقعية المشهد تضع سؤالًا عريضًا أمام الجنوبيين عمَّ هو اليوم التالي ليوم الاستقلال؟ فهذا استحقاق ستخوضه البلاد بعد ميلادها، ولا بد من الحديث عنه بكامل المسؤولية، كتلك التي حملها أهل هذه القضية منذ عقود ثلاثة، وناضلوا حتى بلغوا منتهاها عند اليوم الأول الذي سيعيشون فيه بسيادتهم على أرضهم، التي وإن أعلنت خلاصها فإنها ستواجه تحديات حقيقية، فلا يمكن للناس أن يعيشوا دون خدمات أساسية تمكنهم من الاستقرار.
الحديث عن الضمانة تبدو أولوية فليس من الصواب إنكار التهديد الأمني الصريح، فجماعة الحوثي هددت الجنوبيين مرارًا وتكرارًا بأنها ستنقض عليهم، فهذه الجماعة ترى أن الجنوب غنيمتها العقائدية، كما هي جماعة الإخوان المتوافقة مع أن الجنوب حصتها ونصيبها من الصفقة التاريخية، التي عقدتها مع علي عبدالله صالح عشية إعلان دولة الوحدة في عام 1990.
تنظيم القاعدة عاود باستخدامه الطائرات المسيّرة في عملياته المتأخرة، رغمًا عن خساراته المتوالية في عملية سهام الشرق، غير أنه يظل حاضرًا عبر خلاياه النائمة في المحافظات الجنوبية.
هذه الدائرة من المخاطر الأمنية لا تقل عما يماثلها في الجانب الاقتصادي، فالبلاد منهارة تمامًا، فلا يوجد فيها ما يمكن الإشارة إليه بأنها روافع، قادرة على تحمل الأعباء المعيشية، كما يضاف إلى ذلك تشابك المؤسسات والهيئات بين الجنوب واليمن، وهذه معضلة فلا العملة موجودة، ولا استقلالية النظام المصرفي قائمة، حتى الموانئ والمصافي النفطية كلها مرتبطة بمركزية صنعاء، وهنا تبدو الصورة قاتمة للغاية، إضافة إلى أن الكوادر المهنية لتشغيل المرافق ما زالت تعيش شتاتًا داخليًا وخارجيًا.
الجنوبيون ومنذ اتفاق الرياض 2019 عملوا على ما يمكن توصيفه بأنها "حكومة ظل" ما أتيح لهم من إدارات في المؤسسات السياسية والاقتصادية والأمنية، لم تحقق حكومة الظل أثرًا يذكر على حياة الناس في استمرار لنهج الدولة، التي بسطت نفوذها على البلاد من عام 1994 . وهذه تجربة لا يمكن القياس عليها بحال من الأحوال، حتى وإن سيقت الأعذار، فهذه تجربة لا ترتقي لمستوى العمل الحكومي.
الإيرادات تظل نقطة ارتكاز فعندما أعلن المجلس الانتقالي الجنوبي الإدارة الذاتية في 2020، ظهر تحسن على أداء الخدمات الأساسية في عدن، وإن كان هذا مؤشرًا إيجابيًا، يعطي دلالة على أنه متى ما توافرت السيولة المالية فإنه من الممكن تطبيع الحياة، وهذه هي نقطة الضوء في النفق المظلم، التي وإن كانت صعبة، غير أنه يمكن البناء عليها، متى ما توافرت الشجاعة لدى المجتمع الدولي والإقليمي، لرعاية مشاريع حيوية تستطيع تشغيل أكبر قدر من السكان، عبر مؤسسات وشركات تعمل على تشغيل المرافق العامة في البلاد، وهذا يعني أن على الجنوبيين أن يبادروا بتقديم تشريعات للاستثمارات الأجنبية، فالفرص الاقتصادية ممكنة.
اليوم التالي ليس يومًا محفوفًا بمشاعر جياشة بانتصار وطني ومنجز قومي عريض، بقدر ما هو يوم عمل شاق، لتأسيس مستقبل آمن، يمكن أن يواصل انتعاشته لعقود تالية، لذلك فالتفكير ملائم من هذه اللحظة على قرع أبواب الجامعة العربية، باعتبارها البيت العربي، لتكون مبادرة بتشكيل لجنة عُليا، تكون مهمتها إسناد الدولة الجنوبية الوليدة على أن تتجاوز ذلك اليوم، التجربة الرواندية ملهمة سياسيًا واقتصاديًا ويمكن تكرارها في الجنوب، فهذا بلد واعد إن كان للعرب إسهام في أن يساعدوه لينهض، فنهوض الجنوب يعني نهوضًا اقتصاديًا للمنطقة العربية، وتحقيقًا لأقصى غايات الأمن القومي العربي، هنا استدعاء صريح للمسؤولية القومية العربية ليوم آتٍ على عدن المدينة، التي على أسوارها تحطمت الأطماع ومن رحمها تولد الآمال الكبيرة.
"العين الأخبارية"