> عبدالكريم عويضة:

​مرت فلسطين والدول العربية بالكثير من تجارب المقاومة المسلحة؛ إما لدحر الاحتلال أو للتخلص من أنظمة حكم، ولا بد من التوقف من فترة إلى أخرى من أجل تقييم الأمور والنظر في التجارب المختلفة، وتقييم عوامل الصواب والخطأ فيها لاستشراف ما ستؤول إليه الأوضاع في مستقبل المنطقة.

وبعيدا عن نماذج المقاومة التي خاضتها معظم الدول العربية في سبيل خلاصها من الاستعمار ونيل استقلالها، والتي كانت في معظمها نماذج وطنية محضة جمعت داخلها كل أطياف المجتمع ووحّدتها خلف هدف التخلص من الاحتلال.

برزت نماذج جديد من المقاومة تعتمد في فكرها على البعد الديني وليس الوطني كمصدر أساسي في استقطابها للجماهير، ووجدت أن القضية الفلسطينية يمكن أن تكون النواة لهذا البعد واستمراريته، حيث أن القدس هي قبلة المسلمين الأولى ومسرى النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وبالتالي تحريرها يعتبر واجبا دينيا قبل أن يكون واجبا وطنيا، وأن تحويل الصراع من وطني في مفاهيمه إلى صراع ديني يخدم هذه النماذج الفكرية للمقاومة المسلحة، ويقيم الحجة لصالحها ويكفّر من يعارضها.

خلال ما يزيد عن ربع قرن خاضت المنطقة تحولات هامة، فانتهت حروب، وبدأت حروب، وأبرمت اتفاقيات سلام، فسمح لهذه النماذج بمجابهتها، فخرجت مشاريع كبرى من أروقة مؤسسات الحكم في الدول العظمى، وحدثت اصطفافات ومحاور جديدة، ولكن ظل الخط السائد، كما أسلفت، هو رجوع الإسلام السياسي إلى المشهد ولكن بشكل مختلف هذه المرة حيث تحالفت فيه قوى السنة والشيعة بعد أن شيطن بعضها البعض سابقا، ويبدو هذا التحالف في ظاهره ذا أهداف مشتركة ولكن بكل تأكيد برؤى مختلفة، بحيث يستخدم كل منهم الآخر لتحقيق غايته وهدفه، ولكن العجيب أن هذا التناغم كان تحت قيادة المايسترو الأميركي وبرعايته، بعد أن كان برعاية بريطانيا العظمى في فترة ما.

العديد من وجهات النظر والآراء مختلفة في هذا الشأن، فهناك من يقول إن المقاومة الإسلامية والإسلام السياسي استطاعا أن يقفا سدا منيعا ضد كل المشاريع والمؤامرات التي كانت تحاك ضد منطقتنا، وقد عملا على تقوية تواجدهما وساندا الثورات التي حدثت في العقد الماضي في المنطقة، وحاولا بكل جهد أن يحدثا تغييرا في الوعي العربي الجمعي بل والوعي الإسلامي في العالم، فأصبحا لاعبين رئيسيين بعد أن فشل المد اليساري والقومي في فعل ذلك، فقضّا مضاجع الولايات المتحدة في كل مكان وخربا عليها العديد من المشاريع وآخرها مشروع السلام الإبراهيمي.

وهناك من يقول إن ما سبق يأتي ضمن رؤية أميركية محضة لإعادة إنتاج الصراعات بما يخدم مصالحها بعد سقوط القومية العربية والشيوعية وأن المايسترو الأميركي استفاد من هجمات الحادي عشر من سبتمبر لغزو أفغانستان، والذي أدى إلى تقوية القاعدة والمد الإسلامي ولتفريخ حركات وشعارات جديدة تصب في إدارة الرأي العام بما يخدم مشاريعها، تلاها غزو العراق لتدمير الإمكانيات العسكرية الأقوى في المنطقة في ذلك الوقت وإحلال إيران بديلاً وتقوية نموذجها وإبرازه كنموذج للمقاومة، من خلال تعظيم الدور الديني في الدفاع عن البلاد والعباد، ومساعدتها في التمدد لحدود إسرائيل عبر تقوية الحركات المنضوية تحت شعار المقاومة من اليمن وحتى لبنان، ومن موريتانيا وحتى مصر، وتشكيل العدو الذي تحتاجه إسرائيل لتوحيد شعبها حول الدولة بمفهومها الديني التوراتي، من ثم تقوية حركات المقاومة المسلحة التي تعتمد منهجا دينيا في فلسطين وجعلها العدو الأقرب، بما يخدم إسرائيل في سعيها لتحويل الصراع إلى صراع ديني، بل ودعمها ماليا وإعلاميا عبر دول كبرى وقنوات تلفزيونية عدة تعمل بإمرة وتخطيط كامل من وكالة المخابرات المركزية الأميركية.

وقد تم تدجين تلك الحركات والسيطرة عليها وجعلها تسير بوعي أو بغير وعي في الاتجاه المرسوم، كذلك تمت إعادة إنتاج العدو الأكبر إيران وذلك للسيطرة بما يخدم مختلف الأطراف وخصوصاً إسرائيل، وقد كانت تلك الحركات الدينية عاملا أساسيا وحاسما في هدم عدة دول مثل سوريا واليمن وليبيا والسودان، ومحاولات باءت بالفشل في مصر وتونس، بالإضافة إلى التدخل المباشر لهدم دول أخرى مثل العراق الذي لم يستطع منذ ربع قرن العودة كدولة طبيعية.

في المقابل يرى آخرون أن كل هذا محض خيال نابع من نظرية المؤامرة، وأن السبب الرئيس في فشل مشاريع التغيير التي قادها الإسلام السياسي أنه لم يعمل على التمهيد لمشروع ثقافي كما هو مطلوب قبل إحداث التغييرات ليكتب لها النجاح، فالرأي العام العربي الجمعي لم يكن جاهزا لعملية التغيير، واستعمال الدين فقط في محاولة استثارة عواطف الناس كان هو المشكلة، فلم تأت حركات الإسلام السياسي بأيّ مشروع متكامل في كيفية التعامل مع مختلف التحديات، وإنما اعتمدت فقط على أن التاريخ يجب أن يسير إلى الخلف والعودة إلى عصر الخلافة دون النظر في معطيات تلك الفترة وكيف تم استغلال الدين للحكم والذي كان في مجمله حكما دكتاتوريا بامتياز.

وهنا نطرح بعض الأسئلة حول نجاح تلك النماذج: هل نموذج حزب الله في لبنان ناجح وهو من ربع قرن تقريبا لم ينجح في تحرير أيّ شبر من أراضي مزارع شبعة المحتلة، بل إن كل لبنان يعيش أسوأ فتراته ومن كل النواحي؟

هل نموذج حماس والجهاد الإسلامي ناجح وهو المسيطر على قطاع غزة منذ 18 عاماً، ولم ينجح في تحرير أيّ شبر من أرض دولة فلسطين، بل عادت إسرائيل لاحتلال كل قطاع غزة وعاثت فيه تدميرا وقتلاً وتنكيلاً خلال الأشهر الماضية؟ والأهم هو هل نموذج الثورة الإسلامية في إيران ونظام ولاية الفقيه ناجح وهو لم يستطيع دفع الضرر عنها أو رفع الحصار الذي تعاني منه منذ مدة طويلة، ويعاني شعبها جراءه من الفقر والتخلف ولكن في نفس الوقت يدعم كل تلك النماذج الفاشلة في عالمنا العربي.. أسئلة برسم الإجابة.
عن "العرب اللندنية"