> جوناه بلانك *:
عندما يغادر الرئيس الأميركي جو بايدن منصبه في يناير المقبل، قد تتلاشى معه الآمال الضئيلة أصلًا بحل الدولتين للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، أما رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فيرفض هذه الفكرة بعينها.
أمضى خليفة بايدن، الرئيس المنتخب دونالد ترامب، فترة ولايته الأولى في الترويج بنشاط لأكبر أحلام نتنياهو التوسعية وفشل بايدن حتى الآن في تحقيق أسمى أهدافه الخاصة بالشرق الأوسط، إلا أنه يستطيع في أيامه الأخيرة إعادة ضبط المعادلة الإسرائيلية - الفلسطينية بمفرده والحفاظ على إمكان تنفيذ حل الدولتين، وإنقاذ كثير من إرثه الملطخ، ووضعه كرئيس في آخر أسابيع حكمه يمنحه، بصورة يغلب عليها التناقض، القوة للقيام بأشياء يمكن فقط أن يؤديها زعيم يهم بترك منصبه.
كانت اللحظات الوحيدة التي بدا فيها الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني قابلًا للحل منذ إقامة دولة إسرائيل عام 1948هي تلك التي تولت فيها الولايات المتحدة زمام الأمور، وكانت السياسة الداخلية تحد دائمًا من مستوى الضغط الذي يمكن لأي رئيس أميركي أن يمارسه، والآن أصبح لدى بايدن فرصة لم تتح لأي من أسلافه، فقد حُرر من القيود السياسية الداخلية كافة في لحظة من الواضح أن الضغط الأميركي ضروري فيها، ولقد مر جميع أسلافه بفترة نهاية ولاياتهم الرئاسية، بيد أنها لم تتزامن لدى أي منهم مع لحظة حاسمة مثل هذه في الصراع.
إن الوضع الراهن لا يناسب أحدًا، والفلسطينيون هم الضحايا الأبرز، فقد قتلت القوات الإسرائيلية خلال عام أكثر من 40 ألف شخص في غزة، فضلًا عن 700 شخص في الضفة الغربية (التي لا تسيطر عليها "حماس").
لقد وقعت إسرائيل في فخ صنعته بنفسها، فلا يمكنها أن تكون في الوقت نفسه دولة ديمقراطية ودولة يهودية دستوريًّا فيما تفرض احتلالًا على أكثر من 5 ملايين فلسطيني ليسوا من مواطني إسرائيل، ومن خلال توفير الغطاء الدبلوماسي لهذا الاحتلال الذي يعتبره معظم العالم غير قانوني، ومن خلال توفير الأسلحة التي يعتمد عليها هذا الاحتلال، نسفت الولايات المتحدة صدقيتها مما قلص قدرتها على الدفاع عن القانون الدولي وانتقاد الدول المستبدة مثل الصين وإيران وروسيا، وهذا يجب أن يتغير ولا يمكن أن يدوم.
إن الدفء الذي يشعر به بايدن على المستوى الشخصي حيال الشعب الإسرائيلي عميق لكنه ليس حصريًا، ولقد رأيت هذا بنفسي عندما عملت معه تسعة أعوام في لجنة العلاقات الخارجية التابعة لمجلس الشيوخ، ولم يكن لدي أية خبرة في عمل الحكومة بعد أن تدربت كعالم أنثروبولوجيا متخصص في الإسلام، فوظفني بايدن لمساعدته في فهم المجتمعات في كل أنحاء الشرق الأوسط وآسيا والتي لم يكن يحوز خبرة كبيرة في شأنها.
إن التعاطف هو القوة العظمى التي يتمتع بها بايدن، وقد رأيته يبديها على نحو متكرر لأشخاص بعيدين من حدود دائرة معرفته، ولقد حان الوقت لإظهار التعاطف الحقيقي مع الشعب الفلسطيني، وهو قد عانى بشدة خلال الهجوم الإسرائيلي الذي جعلته سياسات بايدن الخاصة ممكنًا.
- تنفيذ الأمر
في حال ترومان كان الاعتراف الرسمي يتألف من مجرد بيان مطبوع على الآلة الكاتبة جاء فيه "لقد أُبلغت هذه الحكومة بإعلان دولة يهودية في فلسطين، وطلبت الحكومة الموقتة الاعتراف بها. تعترف الولايات المتحدة بالحكومة الموقتة بوصفها السلطة الفعلية لدولة إسرائيل الجديدة".
في ذلك الوقت كانت جيوش إسرائيل وأربعة من جيرانها لا تزال تتقاتل حول خطة الأمم المتحدة لإقامة دولتين، واحدة يهودية وأخرى فلسطينية، ولم تكن لغة هذا الاعتراف الرئاسي تلزم الولايات المتحدة بدعم أي تفاصيل محددة للتسوية النهائية، وهنا يجب على بايدن أن يصوغ بيانًا بسيطًا مماثلًا، أو يمكنه حتى أن يستخدم صياغة ترومان التي اكتفت بذكر الأساسات كنموذج له، ويجب عليه أيضاً أن يرعى قرارًا لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من أجل التوصل إلى إجماع دولي على تطبيق حل الدولتين، فالإطار الدولي الحالي لتسوية الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني لا يزال يقتصر على قرارات مجلس الأمن رقم (242) و (338) و(1397)، ويدعو القراران (242) و(338) اللذين صدرا في أعقاب حرب الأيام الستة عام 1967 وحرب عام 1973 على التوالي، إلى وقف القتال وإعادة الأراضي المحتلة (من المفترض إلى مصر والأردن وسوريا)، ولا يذكر أي من القرارين شيئًا عن السكان الفلسطينيين في هذه الأراضي كما أنه لا يورد حتى كلمة "فلسطينيين"، أما القرار (1397) الذي صدر عام 2002 فيؤكد ببساطة "رؤية لمنطقة تعيش فيها دولتان، إسرائيل وفلسطين، جنباً إلى جنب داخل حدود آمنة ومعترف بها".
إن بايدن قادر على تدبر أمر تمرير قرار يعترف صراحة بدولة فلسطينية ذات سيادة في الأراضي التي احتلتها إسرائيل منذ عام 1967، ومن غير المرجح أن يكون هناك استعمال لحق النقض بوجه القرار، فقد اعترفت روسيا والصين سلفًا بدولة فلسطينية، كما أشار زعماء من فرنسا والمملكة المتحدة خلال العام الماضي إلى استعدادهم لمنح مثل هذا الاعتراف قبل اكتمال عملية المفاوضات حول التسوية.
وأخيرًا يتعين على بايدن فرض تطبيق القوانين الأميركية القائمة في ما يتعلق بنقل الأسلحة إلى إسرائيل، فواحدة من الأسرار المنتشرة في واشنطن باتت الآن مكشوفة على الملأ، والقوانين الأميركية في شأن نقل الأسلحة تتضمن عمليًا "استثناء ضمنيًا" لإسرائيل، وهناك في الأقل تشريعان رئيسان طال انتظار وضعهما موضع التطبيق، إذ ينظم القانون المعروف باسم "ليهي"، أو بشكل أكثر دقة المادة "أم-620" من قانون المساعدات الخارجية لعام 1961، وفقًا للتعديل الذي أجري عليه في يناير 2014، المساعدات العسكرية الأميركية التي تُصرف من قبل وزارة الخارجية. (هذا الإجراء، وإجراء آخر يضبط المعونة التي تقدمها وزارة الدفاع، وقد سُمي على اسم راعيه باتريك ليهي، وهو ديمقراطي من فيرمونت شغل منصب عضو مجلس الشيوخ الأميركي بين عامي 1975 و 2023 وكان من أبرز المدافعين عن حقوق الإنسان في الكونجرس).
إن لغة هذا القانون لا لبس فيها، "لا يجوز تقديم أية مساعدة بموجب هذا القانون أو قانون مراقبة تصدير الأسلحة إلى أية وحدة من قوات الأمن في دولة أجنبية إذا كان لدى وزير الخارجية معلومات موثوقة تفيد بأن هذه الوحدة قد ارتكبت انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان".
ويسري هذا القانون على جميع البلدان التي تتلقى مساعدات عسكرية أميركية، وفي يونيو الماضي كتب تشارلز بلاها، وهو دبلوماسي تقاعد أخيرًا، يقول "يصر مسؤولو الوزارة على أن الوحدات الإسرائيلية تخضع لمعايير التدقيق ذاتها مثل الوحدات من أية دولة أخرى"، ويضيف "ربما [كان ذلك] من الناحية النظرية، ولكن من الناحية العملية فهذا ببساطة غير صحيح"، وقد كان لكلماته وزن خاص، إذ إن بلاها كان لسبعة أعوام ونصف العام المسؤول في وزارة الخارجية عن التدقيق في عمليات تصدير الأسلحة للتأكد من امتثالها لقانون ليهي، وقبل بضعة أسابيع كان ليهي نفسه، المتقاعد الآن، قد نبّه أيضًا حين كتب موضحًا أنه "منذ إقرار قانون ليهي لم تعتبر أية وحدة من قوات الأمن الإسرائيلية غير مؤهلة للحصول على مساعدات أميركية".
وأضاف أن ذلك جرى "على رغم التقارير المتكررة والموثوقة عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، والفشل المتكرر الذي صار بمثابة النمط في فرض العقوبات بصورة مناسبة على الجنود والشرطة الإسرائيليين الذين ينتهكون حقوق الفلسطينيين".
ويبدو أن مذكرات الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية الأسبوع الماضي بحق نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت تشكل "معلومات موثوقة" عن انتهاك صارخ لحقوق الإنسان، كما هو الحال مع عدد كبير من الإجراءات الأخرى الموثقة جيدًا من قبل السلطات الإسرائيلية منذ أكتوبر 2023، فقد تلقت وزارة الخارجية ما يقارب 500 تقرير عن استخدام إسرائيل للأسلحة التي زودتها إياها الولايات المتحدة في هجمات شنتها على المدنيين في غزة، وبعد غزو إسرائيل للبنان الشهر الماضي اتهمت المفوضة السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة إسرائيل بارتكاب "فظائع في لبنان، بما في ذلك أعمال العنف التي تهدف إلى نشر الرعب بين المدنيين والحرب العشوائية".
والتشريع الثاني الذي ينبغي لبايدن أن يضغط لتنفيذه هو "قانون ممر المساعدات الإنسانية" Humanitarian Aid Corridor Act، إذ يحظر هذا القانون كل عمليات نقل الأسلحة إلى أية دولة "تمنع أو تقيد بأي شكل نقل المساعدات الإنسانية الأميركية أو تسليمها إلى أية دولة أخرى"، وقد أدى رفض إسرائيل المستمر للسماح بأكثر من قدر بسيط من المساعدات لغزة إلى حمل إدارة بايدن على إنفاق 230 مليون دولار بغرض بناء رصيف عائم الربيع الماضي، والذي خدم لثلاثة أسابيع فقط وتمكن خلالها من تسليم مساعدات كانت أقل من القدر البسيط من المساعدات الذي تدفق من طريق البر في أربعة أيام فقط خلال الفترة نفسها، وفي أغسطس الماضي ذكر تقرير رقابي صادر عن المفتش العام للوكالة الأميركية للتنمية الدولية أن قوات الدفاع الإسرائيلية أعطت الأولوية بصورة غير صحيحة لمتطلباتها التشغيلية والأمنية على تسليم المساعدات الإنسانية.
- تكبيل
هل يمكن لأي واحد من هذه الإجراءات التنفيذية أن ينجو من تسلم الرئيس المنتخب السلطة؟ على أية حال أمضى ترامب ولايته الأولى وهو يعمل على تمكين أجندة نتنياهو، وتشير اختياراته لأعضاء مجلس وزرائه إلى أن إدارته لن تفعل الكثير لكبح جماح إسرائيل، ويمكن لترامب أن يحاول التراجع عن تطبيق القوانين ذات الصلة التي تنظم عملية منح السلاح [إلى دولة أجنبية]، إذ يحوي "قانون ممر المساعدات الإنسانية" بندًا يمنح الرئيس سلطة العودة عن أي قرار [اتخذه الرئيس السابق] من دون التعرض إلى مزيد من السخرية على المستوى العالمي، غير أن قانون ليهي الذي يضبط [مساعدات] وزارة الخارجية لا يحوي مثل هذه الثغرة، وبمجرد أن تعترف الوزارة رسميًا بوجود "معلومات موثوقة" عن انتهاكات خطرة لحقوق الإنسان فإنها لا تستطيع قانونيًا أن تقرر الاستمرار في تسليم الأسلحة، وليس بمقدور ترمب قانونيًا أن يأمر وزير خارجيته بأن يقرر ببساطة أن متطلبات ليهي قد جرى الوفاء بها، والمخرج القانوني الوحيد هو عملية محسوبة بعناية تجري من خلالها معالجة المخالفات الجسيمة المرتكبة، وهذا يعني أن المسار الوحيد للخروج من الحظر الذي ينص عليه قانون ليهي بالنسبة إلى دولة تعتبر مذنبة بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، هو التوقف عن القيام بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
يمكن لترامب أن يحاول إلغاء الاعتراف بالدولة الفلسطينية ولكن لا توجد سابقة لإجراء من هذا النوع، فلقد اعترفت الولايات المتحدة رسميًّا بما يقارب 200 دولة إلا أنها لم تقم رسميًّا أبدًا، بحسب اعتقادي، بسحب الاعتراف من دولة ما، وبوسع ترامب أن يوجه محاميه لإعلان أي شيء يرغب فيه، ولكن بمجرد أن تعترف كل دولة تقريبًا في العالم بدولة فلسطينية فسيخوض المعركة وحيدًا إلى حد ما، ولن يكون بمقدوره أن يلغي قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي يفرض حل الدولتين، فهو خارج عن سيطرة أي رئيس أميركي. إن الاعتراف بالدولة الفلسطينية ليس خطوة جذرية كما يوحي به.
وهذه الخطوات التنفيذية لن تخلق عملية سلام جديدة بيد أن تأثيرهًا سيكون كبيرًا، فمن شأنها أولًا أن تبقي احتمال نيل الفلسطينيين حق تقرير المصير حيًّا وإن كان ذلك على أجهزة الإنعاش، ومن دون مثل هذه الإجراءات من المرجح أن تضم إسرائيل بعض الأراضي المحتلة أو كلها على مدى الأعوام الأربعة المقبلة، وثانيًا قد تغير هذه الإجراءات التنفيذية الديناميكية السياسية داخل إسرائيل نفسها، إذ يبقى حل الدولتين هو السبيل الوحيد الممكن لكي تحتفظ إسرائيل بهويتها، وتظل حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة غير شعبية إلى حد كبير، وثالثًا من شأنها أن تمنح الولايات المتحدة النفوذ اللازم للضغط على إسرائيل بهدف إبرام صفقة تاريخية، فلم يُظهر ترامب أي تعاطف مع الفلسطينيين لكنه أظهر رغبة عميقة في أن يذكره التاريخ باعتباره صانع صفقات جيوسياسية.
قبل أقل من عامين جرى تداول مقارنة بين إرث بايدن وإرث فرانكلين روزفلت، أحد أعظم الرؤساء الأميركيين، وليس هناك من يجري مثل هذه المقارنات اليوم، وقد ندد كثير من الديمقراطيين والتقدميين بسلوك بايدن في شأن الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني.
إن حراكًا بعيد النظر قد يوفر خاتمة أفضل لفصل السياسة الخارجية في قصته كرئيس حشد تحالفًا عالميًّا للدفاع عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ليس فقط للأوكرانيين ولكن أيضًا للفلسطينيين، ولم يُظهر بايدن على امتداد العام الماضي أنه جريء بوقاحة، ناهيك عن كونه متطرفًا، ولكنه عمد طوال حياته المهنية باستمرار إلى مفاجأة أولئك الذين اعتبروه الرجل الأكثر قابلية للتنبؤ بأفعاله في واشنطن، ولا أعرف ما إذا كان بايدن الحالي في عام 2024 سيقرر إنهاء حياته العامة بلفتة شجاعة وبطولية، غير أن بايدن الذي عملت معه كان ليوجه فريقه سلفًا لوضع مثل هذه الخطة.
"إندبندنت عربية"