عندما تنخفض عملة بلد أمام الدولار يتميز اقتصاده بمستوى عال من القوة التصديرية للسلع والخدمات ترتفع تنافسية هذا البلد في الأسواق الخارجية. يحدث ذلك من خلال ربط سعر الصرف الحقيقي بالتغيرات الحادثة في مستوى الأسعار داخليا وخارجيا وبالتالي التغيرات التي تحدث للعملة الوطنية في قوتها الشرائية إضافة لتقدير القدرة التنافسية خارجيا استنادا إلى أساس التغيرات التي حدثت في عملة هذا البلد.

في بلادنا الانخفاض المستمر للعملة الوطنية أمام الدولار يؤدي إلى ارتفاع قيمة المستوردات من السلع والخدمات بنفس نسبة تغير قيمة العملة اليومية أمام الدولار نظرا لأن اليمن تستورد نحو 90 % من احتياجاتها من الخارج كونها بلدا يستورد ولا يصدر وهنا تتعاظم المشكلة وتزداد الآثار السلبية على الأفراد والمجتمع عدا أن التراجع المستمر في القوة الشرائية للعملة ويجد الناس لذلك صعوبة في توفير احتياجاتهم الأساسية من الغذاء والدواء وهذا يولد في المحصلة مستوى عاليا من الحرمان وسوء التغذية الحاد وبالتالي من المجاعة الحقيقية.

للأسف إن السياسات الاقتصادية المالية والنقدية والسياسات التجارية والقطاعية السابقة فشلت في إحداث تغييرات هيكلية في قطاعات الإنتاج لناحية التنويع الاقتصادي سواء لتوفير السلع البديلة محليا أو توجيه الاقتصاد نحو الصادرات عبر تشجيع قطاع الصادرات الخارجية.

ويعود السبب جزئيا إلى أن الإصلاحات الاقتصادية حررت مبكرا قطاع التجارة الخارجية، حيث أذعنت الحكومة مبكرا لشروط مؤسستي الصندوق والبنك الدولي القاضي بفتح السوق المحلي وتحرير التجارة أمام السلع المستوردة ورفع العوائق الضريبية والجمركية، مما أحدث منافسة غير عادلة لصالح السلع المستوردة حيث خلق تمايزا وفروقات كبيرة لناحية التكلفة والجودة والسعر بين السلع المنتجة محليا وتلك المستوردة، وخاصة أن قطاع الصناعات التحويلية في بلادنا قطاع ناشئ ومستورد صافي لمدخلات الإنتاج الوسيطة عدا عن قطع الغيار، وفوق ذلك يتولى تشغيل العمالة المحلية حدث هذا رغم أن هذه المؤسسات الدولية عدا عن منظمة التجارة الدولية لا تشترط توحيد التعامل مع السلع الأجنبية والمحلية فورا وهناك سنوات ينبغي أن توفر حماية لمنتجك الوطني حتى تستطيع معه الدولة تحسين قطاع الصادرات الخارجية وتنوع إنتاج قطاع الصناعات التحويلية والدليل على ذلك أن دولة مصر الشقيقة التي بدأت الإصلاحات قبل اليمن مازالت حتى اليوم تحمي منتوجات صناعتها المحلية من المنافسة غير العادلة للسلع والخدمات المستوردة. على رغم ضغوط المؤسسات الدولية فالأهم أن يكون لديك فريق مفاوض يتميز بقوة منطقة ولديه القدرة على الإقناع والتفاوض وليس فريقا مستمعا كما حدث بالنسبة لبلادنا.

إن التحرير المبكر لقطاع التجارة في بلادنا يعود إلى أن النخب اليمنية التي تولت تنفيذ سياسات الإصلاحات الاقتصادية والمالية كانت أكثر حماسا وإخلاصا من موظفي مؤسسة الصندوق والبنك الدوليين اللذين كانا يتفاوضان معهما، بل إن الأخيرين كانا ينصحان الجانب اليمني في كثير من الحالات في التريث في تطبيق السياسات السعرية ورفع الدعم وتحرير السوق، لكن القائمين على تنفيذ سياسة الإصلاحات اختاروا تنفيذ الإصلاحات السعرية الأسهل وأجلوا الإصلاحات المهمة التي كان من شأن تنفيذها توفير الظروف المثلى لدعم القطاعات الإنتاجية وتعزيز وتنويع الصادرات الوطنية، كما أن رفع الدعم على المشتقات النفطية تم تأجيله خشيه من رد الفعل الشعبي وجاءت حكومة الوفاق برئاسة باسندوة وتحملت تبعات هذا الملف وحدث بعد ذلك ما حدث.

وبذلك، أهدرت الحكومات السابقة منذ بدء عملية الإصلاحات الاقتصادية عوائد كبيرة كان يجب أن تأتي من عوائد النفط والغاز ومن القطاعات التجارية كان يمكن أن يحدث عوائدها لو تم استغلالها برشادة فروقا وتحولا في تطوير البنية التحتية بمستوياتها المختلفة.

وأدى الفساد وغياب الرشد الاقتصادي إلى تحويل معظم الفوائض المالية السنوية المتتالية من عوائد صادرات النفط وبمئات المليارات إلى مؤسسة الرئاسة ومؤسستي الدفاع والأمن ذات الموازنات غير المبوبة. هذا أدى إلى عدم الاستفادة من هذه الفوائض لدعم الاقتصاد الحقيقي وتطوير البنية التحتية بما في ذلك قطاع الكهرباء، حيث فضلت الحكومات المتعاقبة شراء الطاقة من القطاع الخاص المحلي والأجنبي بدلا من توفيرها محليا والسبب أن شراء الطاقة يوفر مداخل قوية للفساد، وبالتالي الإثراء والتربح، ولذلك هذا الملف مازال يشكل التحدي الرئيس أمام الحكومات المتعاقبة حتى اليوم.

الخلاصة أن الإصلاحات الاقتصادية الحقيقة الشاملة على الصعيد الجزئي والكلي وتحسين كفاءة الإنفاق والموارد وتعزيز مبادئ الحكومة والإفصاح وتعزيز دور المؤسسات الرقابية ووضع حد لظاهرة الفساد كل هذا سيشكل مدخلا صادقا وصحيحا لمواجهة أزمة سعر الصرف، وفي هذا الصدد أنصح مجلس الرئاسة وحكومة الشرعية بالاستفادة من التوصيات التي خرج بها المؤتمر الاقتصادي الدولي الأول الذي نظمته كلية العلوم الإدارية بجامعة تعز كون هذه التوصيات بعمقها وشمولها وضعت الآلية لتنفيذها تشكل بحق خارطة طريق اقتصادية لمواجهة الأزمة الاقتصادية والتطوير الاقتصادي في اليمن على المديين القصير والطويل الآجل.