> عبدالجبار جويبر المقرمي:
عرف الإنسان الفخار وامتهن صناعته وتشكيله من الصلصال منذ استقر وصنع منه مستلزماته اليومية من أواني متنوعة بأشكال عديدة لتتواءم مع حاجته لتلك القطع والأواني لحفظ الماء، وإعداد الطعام، وصناعة الخبز.
وفي الزمن المتأخر، صارت للفخار استخدامات جمالية متعددة مثل التحف والتماثيل الصغيرة وأصص النباتات والزهور في المساكن.
وجد الفخار في كل الحضارات الإنسانية، ووجدت بقاياه في الأضرحة والقبور، كما هو الحال في المدافن الفرعونية، وفي حضارة المايا والأزتك، وعند الصينيين الذين تفننوا في تشكيله وتطويره وتلوينه بالنقوش والزخارف. فكان فن الخزف امتدادًا للفخاريات والصلصاليات رغم تباعد القارات في ما بينها، وكذا في الجزر المعزولة. ويكاد يكون هو السمة المشتركة التي وجدت في كل الحضارات في آسيا وأفريقيا وأوروبا والأميركيتين وأستراليا، وفي كل مكان وجدت فيه حضارة إنسانية.
- صناعة الفخار
وتبدأ صناعة الفخار من اختيار الطين المناسب ونخله وعجنه. هناك تربة مناسبة لإنتاجه، ومناطق معينة اشتهرت بصناعته لا سيما عند ضفاف الأودية وفي المصبات، حيث تنقل الأودية مكوناتها من منابعها ومن المرتفعات لتشكل خامة مناسبة ومثالية لصناعة الفخار. كما يسهم الحرق في إعطاء الفخار الصلابة المطلوبة، واللون الأحمر الفاتح المعروف به. وتوضع المحارق في أماكن محددة، وبشكل دائري في أغلبها. تتعرض القطع إلى حرارة عالية تجعل الطين متماسكًا وصلبًا بما يكفي للاستخدام، وتحمل النقل وعوامل الطقس والمناخ، وحفظ السوائل والطعام، ومقاومة التآكل عبر سنوات عديدة قد تمتد إلى قرون.
ولا يزال البعض في المناطق الريفية يحافظون على صناعة الفخار باستخدام الأيدي البشرية في عجن الطين وتشكيله، دون استخدام الآلات المحورية الدوارة التي تسمى دولاب. ويستخدم بعض الحرفيين المهرة أيديهم في تشكيل الفخار بشكل دائري كما هو الحال في صناعة التنور أو الموفى. وقد شاهدت نساء في أرياف جنوب تعز قبل عقود يشكلن الطين لصناعة التنور أو الموفى بشكل دائري مدهش، برص قطع الطين فوق بعضها وتسويتها بقطعة خشبية من الداخل والخارج تمهيدًا لعملية حرقها.
- طين الضرورة في اليمن
وقد يسمى عامل الفخاريات "مَدَّار"، والمِمدارة هي أحد الأحياء الشعبية في عدن، التي أخذت اسمها من تلك المهنة التي كانت رائجة في الزمن الماضي قبل ظهور الأواني البديلة، والتي حدّت من انتشار الفخار. وكذا "المَدرة" التي اشتق اسمها من اسم المهنة الشاملة.
وكانت في كل قرية "مِمدارة" (معمل لتصنيع الفخار) في كل مكان، وفي مختلف الأزمنة. ولدى كل التجمعات البشرية في أصقاع الكوكب، بينما في الزمن المعاصر تم تهميش جماليات الفخار وفوائده الصحية، وجودة الأطعمة التي تحضر فيه، كما أثبت العلم ذلك بما في ذلك حفظ المياه والسوائل كالعسل والسمن والحليب، وطهو الطعام وصناعة الخبز (في التناوير الطينية).
وفي اليمن عمومًا وتهامة خصوصًا، لا تزال الفخاريات حاضرة رغم كل المعوقات التي اعترضت صناعتها وبيعها والترويج لها. وهناك مناطق تخصصت أكثر من غيرها في تصنيع الفخاريات، مثل منطقة حيس في محافظة الحديدة التي اشتهرت بتلك الصناعات، وكذا في مناطق باجل والمراوعة وبرع وزبيد والسُخنة وغيرها، وكذلك في خولان، صعدة، وحراز، وتعز، سامع، وشرعب، وشبوة، والمهرة، وذمار، وسقطرى. فنسمع بالفنجان الحيسي للقهوة، الذي أخذ اسمه من مكان تصنيعه، وكذا نجد التنور أو ما يعرف بالمافي أو الموفى، وأشكالًا أخرى، كالبرمة الملحة (الإناء الذي يصنع بواسطة اللحوح)، المَعشرة، والمَشهُف القشوة، البوري، المجمرة، الجرة، والكوز، والمدرة، والجمنة، والفنجان، والجفنة، وأصيص النباتات، والمبخرة، والزي، والمقلى وغيرها.
وهناك فخاريات سميت على مكان صناعتها، مثل الصعدي والخولاني والحيسي، والبرعي، والمروعي، والحضرمي، واللحجي، ومناطق أخرى. أطلق على المشغولات اسم مكان نشأتها.
في الأسواق الشعبية في تهامة على وجه الخصوص، هناك مكان خاص لسوق الفخاريات، يتم فيه عرض تلك المصنوعات النابضة بالجمال والمعطرة بالأصالة. وللسوق الشعبي أو ما يسمى "وعد" يوم محدد يلتقي فيه المتسوقون ويتم تبادل السلع والمنتجات، والبيع والشراء. ويكون لسوق الفخاريات مكان محدد وزاوية معينة. في معظم الأحوال نراها مرصوصة بشكل متناسق ليشتري منها المتسوقون حسب رغباتهم. وهذا نمط قديم للتبادل منذ زمن المقايضة ليظل الفخار سلعة أصيلة، وتحف شعبية تنبض بالحياة، وتعزز قوة الإنماء للهوية وللمكان، وتستمتع بها أحداقنا وعيوننا في مربضها في زوايا الدار وفي وسط المائدة، حيث يكون للطعام فيها نكهة لا توصف، ورائحة تنبض بجودة الطعام ولذته.
- ختامًا
كما ينبغي دعم المعامل والمشاغل للحرف التقليدية، وإقامة دورات تعليمية للأجيال الجديدة، ونقل الخبرات التراكمية لتلك المهن إلى براعم تحفظها من الضياع في المستقبل. وعمل معارض منتظمة في مختلف المدن ودعمها لعرض المشغولات والمنتجات الفخارية وغيرها من المهن التقليدية، وتسليط وسائل الإعلام والرأي العام على أهمية تلك المهن بما فيها الفخاريات، وتسهيل تصديرها إن أمكن، باعتبار ذلك نوعًا من التشجيع وتشغيل الأيدي العاملة بهذه المهن بما يشكل دعمًا منقطع النظير.
في ظل الأوضاع الراهنة، وبالغة السوء، يجب تدارك هذه الحرف اليدوية والمهن التقليدية المعرضة للاندثار، بتكثيف الترويج لها ولفت أنظار الناس إلى أهميتها في تكوين هويتنا وموروثنا، والبحث عن جهات تستطيع توفير الدعم والمساندة لإنقاذها من الزوال. "خيوط".