> إعداد/ عبدالقادر باراس:

​ في حلقتنا اليوم نسلط الضوء على ذكريات مدفع الإفطار الذي كان يُستخدم لتنبيه الصائمين بموعد الإفطار، كما نستعرض نمط حياة الناس وبساطة الأجواء الرمضانية في عدن منذ أربعينيات القرن الماضي، ونتحدث عن دور المسحراتي في إيقاظ الصائمين لتناول وجبة السحور، واعتماد الأهالي قديمًا على الفوانيس لإنارة منازلهم وتولي البلدية مسؤولية إنارة الشوارع.

كان الناس في عدن في الأربعينات ينامون مبكرًا، حوالي الساعة 11 مساءً، ولم يكن هناك راديو أو تلفزيون. كانت الحياة بسيطة، وكان الموظفون يذهبون إلى أعمالهم منذ الساعة السادسة صباحًا وحتى الثانية عشرة ظهرًا.

عندما يعود العمال إلى منازلهم من أماكن عملهم، يحرصون على البقاء في المساجد حتى يحين موعد أذان العصر. يعود المواطن من عمله لينال قسطًا من الراحة في منزله حتى قبيل العصر، ثم يخرج إلى السوق حاملًا "زنبيلا" في يده، يقوم بشراء حاجياته الرمضانية، ثم يعود بها إلى منزله.

وكانت ربات البيوت من العاملات يعودن إلى منازلهن بعد انتهاء أعمالهن، ليشرعن في تحضير موائد الإفطار. كان بعضهم يتجمع أمام منازلهم لتبادل الأحاديث مع جيرانهم انتظارًا لوقت أذان المغرب. وبرغم حرارة الجو خلال النهار في شهر رمضان، إلا أن سعادة الناس كانت لا توصف، كانوا يتوجهون إلى السواحل أو إلى بستان "كمسري" المعروف حاليًا بحديقة ملاهي عدن، حيث يجلسون مستمتعين بالأجواء حتى اقتراب وقت المغرب، ثم يعودون إلى منازلهم للإفطار.

كان العيش سهلاً، والرزق ميسرًا، والحياة رخيصة، والمواد الغذائية متوفرة. كانت المدارس في ذلك الوقت تعطل، والتجارة الخارجية والتصدير والتوريد يضعفان في رمضان حتى يعود التجار للعمل بعد العيد.
تتغير مواعيد تناول الطعام خلال رمضان، حيث تقتصر على المأكولات الخفيفة وقت الإفطار، وبعد ساعتين من موعد الإفطار يمكن تناول وجبة كاملة للعشاء.

بعد تناول الفطور وأداء صلاة المغرب، يبدأ وقت العشاء الذي يختلف من منزل لآخر، ثم يتوجهون مجددًا إلى المساجد لأداء صلاتي العشاء والتراويح.

في الأربعينيات، كانت الناس في عدن تستخدم مواقد "الشول" ذات الشكل التقليدي. بعدها اعتمدت في الستينات على الغاز السائل لطهي أكلات رمضان، وكان سعره يتراوح من 7 شلنات إلى 25 شلنا، وكانت الأسر الفقيرة والمتوسطة الحال تستخدمه بشكل رئيسي في الطهي. كما كانت بعض الأسر في منتصف الستينيات من القرن الماضي تستخدم مواقد لطبخ الأطعمة تعرف بمواقد "بيتر فلاي" الشهيرة، والتي تتميز بثلاثة مواقد وأفران.

نظرًا لعدم وجود الحدائق، وبسبب أن العديد من الشوارع لم يتم سفلتتها، كانت تقوم البلدية يوميًا خلال شهر رمضان برش الشوارع بالمياه باستخدام سيارات صهريجية (بوزة). كما كانت تهتم صحة البيئة بمراقبة الأسواق في رمضان حيث كانت تقوم برش المبيدات مرتين في اليوم، صباحًا ومساءً، في أماكن تواجد الباعة المتجولين في الأسواق. وكذلك كانت تقوم بحملات قبل حلول شهر رمضان لإبادة الكلاب الضالة، وذلك منعًا لانتشار الأمراض مثل الجرب.

كان كبار السن في الماضي يعتمدون على صوت مدفع الإفطار للإعلان عن موعد الإفطار، حيث لم تكن مكبرات الصوت منتشرة كما هي في الوقت الحالي.
عرفت مدينة عدن مدفع الإفطار منذ الأربعينيات، وكان هناك مدفعان للإفطار في عدن، الأول على جبل شمسان في المعلا، والآخر في كريتر. كان يتم إطلاقهما إعلانًا لبداية وقت الإفطار، إلا أن هذه العادة توقفت في أواخر ستينيات القرن الماضي.

يتذكر كبار السن في عدن في أواخر الأربعينيات عندما قامت الحكومة البريطانية بتركيب مدفع للإفطار في منطقة العيدروس والقطيع بمدينة كريتر في عدن.
ومنذ تلك الفترة، كان صوت مدفع الإفطار جزءًا من يوميات رمضان، حيث كان يُطلق عند أذان المغرب لإعلان موعد الإفطار، وكذلك عند وقت السحور. استمر هذا التقليد حتى منتصف الستينيات.


كانت قذيفته تُطلق مع أذان المغرب لتُعلن للناس وقت الإفطار. في ذلك الوقت لم يكن أذان المساجد مسموعًا كما هو الحال الآن، لذا كان صوت المدفع هو الإشارة التي يترقبها الناس للإفطار.

كان يتم إطلاق قذيفة المدفع من أعلى جبل شمسان، تحديدًا في الموقع الذي يُعرف اليوم بالطريق الدائري المؤدي إلى منطقة الشيخ إسحاق. وعلى الرغم من توفر إذاعة عدن منذ عام 1954، ووجود الكهرباء في المنازل والمساجد خلال الستينيات، بخلاف الأربعينيات وبداية الخمسينيات، إلا أن تقليد إطلاق المدفع استمر كإرث شعبي راسخ. يبدو أن هذا التقليد أصبح جزءًا من الهوية الثقافية لسكان عدن، ولم تجرؤ السلطات البريطانية على إيقافه احترامًا للعادات والتقاليد التي اعتاد عليها السكان.

كما كان يُطلق مدفع من منطقة المارشاج بالتواهي لإعلان بداية شهر رمضان، وكان يُطلق المدفع يوميًا وقت الإفطار.
في الخمسينيات، كان يتم الإعلان عن بدء شهر رمضان باستخدام صفارات الإنذار من جميع مراكز الشرطة، وكانت صفارات الإنذار تُطلق أيضًا كل مساء عند غروب الشمس، مُعلنة انتهاء فترة الصيام لذلك اليوم.


يتذكر كبار السن تلك الأيام التي كان فيها ونان منصوب فوق مبنى شرطة الشيخ عثمان، حيث كان يُستخدم لتنبيه الناس بوقت الإفطار. كانت أصداؤه تمتد لمسافات بعيدة ليعلم الجميع بموعد الإفطار.

في الأربعينيات من القرن الماضي، لم تكن الكهرباء قد دخلت بعد إلى البيوت بل كانت في الخمسينات مقتصرة على عدد قليل منها، وكذلك المساجد لم تكن مزودة بمكبرات الصوت كما هو الحال اليوم. لذلك، كانت قبة المسجد مزودة بسراج فانوس يعمل بالغاز يضيء عند وقت الأذان. كان المواطنون يقفون أمام بيوتهم، متجهين بأبصارهم نحو قبة المسجد، وعندما يرون السراج يضاء فوق قبة المسجد يدركون أن وقت أذان المغرب قد حان فيسارعون إلى الإفطار.

كما لم تكن هناك إذاعة تنقل الأذان. كان الأطفال يقفون أمام المسجد، وعندما يسمعون الأذان، يسرعون بالانتشار بين الأحياء المجاورة وهم يرددون: "أفطروا يا صائمين.. فطوركم يا صائم"، فيسبقون بذلك صوت مدفع الإفطار الذي كان يُطلق من فوق أحد جبال عدن.


وكانت غالبية البيوت في الخمسينات تعتمد في رمضان على الفوانيس والسراجات التي تعمل بالجاز (الكيروسين) مثل ماركة "هيركن" وغيرها، إضافة إلى مصابيح "اللمبة - نوارات" أبو ضغط والكباس منها ماركات "Bialaddin" و"فيرنكس" و"أبو علاء الدين"، وفوانيس ماركة "ديتر" الأمريكي، الذي قوته 4 شمعات، يباع بسعر 4 رُبية. ولم تكن الكهرباء حينها في متناول الجميع، وخاصة في المساكن الشعبية التي تقع في الجبال، حيث لم تصلها الكهرباء إلا بعد منتصف الستينيات.

كانت شوارع المدينة في ذلك الزمن تفتقر إلى الإضاءة الكهربائية. وكان السكان يعتمدون على موظف البلدية، المعروف بلقب "المسرج"، للقيام بمهمة إضاءة الفوانيس المعلقة عند زوايا الشوارع. كانت هذه الفوانيس موضوعة داخل صناديق زجاجية، حيث كان "المسرج" يتسلق سلمًا قبل أن يحل الظلام لإضاءتها طوال الليل حتى ينفد الجاز الذي بداخلها.

كان الاستماع إلى الأغاني يتم في أجواء مميزة تبدأ بإضاءة فوانيس الجاز التي كانت تتولى بلدية عدن، التابعة حينها للإدارة البريطانية، مسؤوليتها. وكان هناك شخص هو من يقوم بمهمة إضاءة الفوانيس المعلقة على الأعمدة، وارتبط لقبه باسم "المسرج" في إنارة بعض شوارع كريتر والمعلا والتواهي والشيخ عثمان.

كان كبار السن يستذكرون وجود المسحراتي الذي كان يمثل أحد الرموز الجميلة التي تحيي روح شهر رمضان. كان يجوب الحوافي (الحارات) سيرًا على الأقدام لإيقاظ الناس قبل الفجر، تحديدًا حوالي الساعة الثانية فجرًا. كان يحمل طبلاً مرددًا عباراته المشهورة: "سحورك يا صايم.. وحِد الدايم - عباد الله، اتقوا الله، وكبروا رب العباد تكبيرًا... سحور سحور"، وكان الأهالي يقدمون له نقودًا كعانة أو عانتين، إلا أن هذه العادة توقفت منذ قرابة أربعين عامًا.

وتتكون وجبة السحور غالبًا من أطعمة خفيفة مثل فتة الخبز مع اللبن أو المعبل (نوع من الحبوب) باللبن، وأحيانًا تكون من بقايا وجبة العشاء. ثم يتم التوجه للمساجد لأداء صلاة الفجر.
ومع اقتراب نهاية الشهر الفضيل وحلول عيد الفطر، كان الأهالي يقدمون له بعض الهدايا أو المساعدات تقديرًا لجهوده.


كما في يوم العيد، يلبس المُسحر الثياب الجديدة والعمامة، ويحضر إلى البيوت. ويقوم أطفال الحارة بمرافقته في زفة إلى بيوت الحارة وهو يغني أغنية جميلة تقول: "أعطوا للمُسحر عادته.. با يلحق أمه وخالته". وتقوم الأمهات بإعطاء المُسحر هدية العيد من حلوى وملابس ونقود، فيفرح بها المُسحر ويدعو لأهل الحارة بدعاء جميل: "من العايدين.. من العايدين.. إن شاء الله بخير وفائزين".