> واشنطن "الأيام" العرب اللندنية:

​شكك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مرارا وتكرارا في قوة العلاقات عبر الأطلسية، حتى أنه يضغط مطالبا بأراض من الدنمارك، حليفة الناتو، وانتقد الزعماء الأوروبيين بينما دعّم المعارضين السياسيين اليمينيين المتطرفين.

وأوروبا ليست القارة الوحيدة التي تأثرت بهذه التغيرات المفاجئة،حيث عطلت إدارة ترامب خلال شهر من صعودها عقودا من السياسة الخارجية الأميركية التقليدية.

وتشمل الإجراءات الرئيسية التهديد بفرض رسوم جمركية على كندا والمكسيك، واقتراح السيطرة على قناة بنما بالقوة، وتأييد الخطط التي تعتبر تطهيرا عرقيا في غزة، وتعليق المساعدات الخارجية المدنية، ومهاجمة الأعراف والمؤسسات التي دعّمت النظام العالمي الذي تقوده واشنطن منذ الحرب العالمية الثانية.

وجاء في تقرير نشره موقع ستراتفور أنه في حين يبقى أن نرى ما إذا كانت هذه التحركات مجرد خطابات أكثر منها أفعالا، تشير كلمات ترامب وأفعاله حتى الآن إلى نية حقيقية لإعادة تشكيل السياسة الخارجية الأميركية جذريا.

وهذا ما يثير سؤالا لدى المحللين: هل أصبحت الولايات المتحدة الآن قوة مُراجِعة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فإنه إما أن يمهد الطريق لنظام عالمي أكثر استقرارا، أو على الأرجح أن يخلق قدرا أكبر من عدم اليقين وعدم الاستقرار والصراع مع تحول العالم نحو التعددية القطبية.

ويشير خطاب ترامب وسياساته حتى الآن إلى تحول كبير في السياسة الخارجية الأميركية. وبغض النظر عن الدور الذي لعبته الإدارات السابقة، بما في ذلك إدارة ترامب الأولى، في إضعاف النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، يبدو أن رئاسة ترامب تمثل نقطة تحول.

وتتناقض تفضيلات ترامب السياسية، باعتباره معارضا للعولمة، مع جلّ جوانب نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية الذي كان يوجه تقليديا السياسة الخارجية الأميركية عبر مختلف الإدارات.

ويرى ترامب، من أجندته التجارية إلى تشككه أو ازدرائه الصريح للمؤسسات والتحالفات متعددة الأطراف (حتى تلك التي تقودها الولايات المتحدة)، أن النظام العالمي الحالي غير ملائم لدولته، فهو يتيح الاستفادة المفرطة من الحرية ويستلزم بذلك قطيعة حاسمة للسماح للبلاد بالتركيز على مصلحتها الذاتية في الخارج بقوة مع تعزيز التنمية المحلية.
  • نظام ترامبي جديد
لا تهتم الولايات المتحدة التي قد تصبح مراجعة بالضرورة بحدوث اضطراب في النظام الدولي.

وترى العديد من البلدان في جميع أنحاء العالم على نحو متزايد أن إطار الحوكمة العالمية الحالي لم يعد فعّالا، حتى وإن لم تتفق مع انتقادات ترامب بالتحديد.

وتشهد حصر العضوية الدائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في المنتصرين في الحرب العالمية الثانية (الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة)، والخلل الداخلي الذي أضعف منظمة التجارة العالمية، والقيم الاقتصادية الليبرالية والديمقراطية المتأصلة في المؤسسات التي يقودها الغرب.

وتشعر العديد من دول الجنوب العالمي لذلك بنفاق الغرب عندما ينتهك هذه المعايير أو بجهد إمبريالي جديد متعمد لعرقلة صعودها.

ومن وجهة النظر هذه، فإن رغبة رئيس الولايات المتحدة العلنية في تعطيل الوضع الراهن يمكن أن تمهد الطريق لتغييرات في الحوكمة العالمية التي قد تعالج بعض هذه الشكاوى بل وتعزز الاستقرار العالمي.

ومن الممكن أن يؤدي تحسن العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا مثالا إلى تخفيف التوترات بشأن العديد من القضايا، وربما يؤدي إلى اتفاق مهم لإصلاح كيفية عمل المؤسسات متعددة الأطراف وإنشاء معايير جديدة ومستقرة تناسب القرن الحادي والعشرين لمواجهة الصين.

وفي نفس الوقت، قد تقلل واشنطن الأقل تركيزا على تعزيز الديمقراطية والانسحاب من مناطق معينة من الاحتكاك في علاقاتها الثنائية من خلال التوقف عن الإصرار على أوراق الاعتماد الليبرالية والمواءمة الجيوسياسية، وبالتالي تقليل التوترات الجيوسياسية.

ويمكن للولايات المتحدة الأقل تدخلا التي تدعم النظام العالمي أن تسمح للكتل الإقليمية ودون الإقليمية باكتساب المزيد من النفوذ إذا ملأت الفراغ، مما قد يعني زيادة الاستقرار في أجزاء مختلفة من العالم.

وتُطرح سيناريوهات قد تنجح سياسات “أميركا أولا” أو تفشل فيها. ومن الممكن أن يؤدي السيناريوان إلى قدر أعظم من الاستقرار بمرور الوقت.

وتبقى هذه مجرد فرضيات، ولكن النظر في أكثرها تطرفا يعدّ مهمّا. فمن ناحية، إذا حققت سياسات ترامب الخارجية غير التقليدية أهدافها، فقد يؤدي ذلك إلى انهيار النظام الإيراني، ما يجلب المزيد من الاستقرار إلى الشرق الأوسط حيث تتعاون إسرائيل والدول العربية بشكل أكثر انفتاحا دون خوف من التداعيات.

وقد تنجح حملة عالمية في تحقيق التوازن بنجاح ضد التوسع الصيني، بدعم من روسيا الأقرب إلى الولايات المتحدة والقلقة من نفوذ بكين المتزايد في آسيا الوسطى، وحلفاء الولايات المتحدة التقليديين مثل أستراليا واليابان والهند الذين اقتربوا من الغرب بسبب التوترات مع الصين، ما يقلل من خطر الصراع في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

وقد يؤدي أيضا إلى خلق حافز قوي يدفع الدول الأوروبية للتغلب على الانقسامات وتعميق العلاقات السياسية والاقتصادية، وخاصة الأمنية، مما يجعل القارة في نهاية المطاف أكثر أمنا.

ومن ناحية أخرى، فإن ما تخسره الولايات المتحدة قد يكون مكسبا للعالم. وتعمل سياسات ترامب الخارجية العدوانية في هذا السيناريو على تنفير أغلب البلدان، ما يدفعها إلى التعاون الأوثق في نظام عالمي جديد يستبعد الولايات المتحدة. ويصبح العالم بذلك أكثر استقرارا. وهذا يمكن أن يؤدي إلى مراجعة أوروبا والصين والهند وغيرها قواعد التجارة العالمية لتناسب المشهد العالمي الحالي بشكل أفضل واتحاد بلدان الجنوب العالمي لإصلاح المؤسسات الدولية حتى تصبح أكثر ملاءمة لاحتياجاتها.
  • القوة تصنع الحق
تبقى النتائج المذكورة سابقا ممكنة. لكن النتيجة الأكثر احتمالا بكثير للولايات المتحدة، في حال تبنيها مواقف مراجعة، تكمن في عالم يتسم بقدر أكبر من عدم اليقين والتقلب والصراع.

وفي هذا السيناريو، لن يعني انهيار نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية زيادة الاستقرار من خلال تشجيع الدول على التعاون في بناء إطار دولي أكثر كفاءة، بل من شأنه أن يعيد النظام العالمي إلى بيئة متعددة الأقطاب غير مستقرة، تتسم بما يسميه منظرو العلاقات الدولية “الفوضى”.

ونتحدث هنا عن غياب قوة مهيمنة قادرة على فرض النظام بسلطتها. وكما لاحظ المؤرخ اليوناني ثوقيديدس منذ قرون مضت، يفعل الأقوياء ما يريدون في مثل هذا العالم، ويعاني الضعفاء كما ينبغي لهم.

وتشير السوابق التاريخية والمؤشرات الحالية إلى أن هذا العالم غير المستقر بدأ في الظهور بالفعل، ولو أن تجلي آثاره الكاملة قد يستغرق سنوات، إن لم يكن عقودا. فقبل كل شيء، قد يولّد غياب بنية حوكمة عالمية قوية حالة من عدم اليقين على نطاق واسع، مما يؤثر على السياسة العالمية والاقتصاد والأمن ومجالات أخرى طوال القرن الحادي والعشرين.

وبمرور الوقت، ستتغير التوقعات التي تحكم سلوك الدولة، وهو ما قد يزيد من تقويض القدرة على التنبؤ في مجالات تتراوح بين المفاوضات التجارية إلى الأعمال العسكرية.

وستشعر الدول القوية بأنها أقل تقييدا بالمخاوف من الانتقام، بينما ستواجه الدول الأضعف إكراها متزايدا من الدول التي تتمتع بموارد ونفوذ أكبر.

وعلى المدى القصير، من المرجّح أن تتابع الصين وروسيا أجنداتهما التوسعية والقسرية بشكل أكثر عدوانية في مناطقهما مع ضعف تحالفات مثل حلف شمال الأطلسي وعجز مؤسسات مثل الأمم المتحدة. كما قد تتبنى قوى متوسطة، مثل الهند والإمارات العربية المتحدة، سياسات خارجية أكثر حزما.

ومن شأن هذه الديناميكيات أن تؤدي إلى تزايد الأزمات، سواء المتعمدة أو العرضية. وقد يكون حلها أكثر صعوبة بسبب غياب نظام حوكمة عالمي فاعل قادر على توحيد الدول التي تركّز على مصالحها الذاتية على نحو متزايد.

وعلى المدى الطويل، فإن التراجع المستمر للنظام الدولي الذي عزز الاقتصاد الليبرالي والقيم الديمقراطية، إلى جانب العودة إلى التعددية القطبية غير المستقرة في غياب قوة مهيمنة لفرض نظام جديد، قد يغذيان النزعة القومية الشديدة في جميع أنحاء العالم.

وستعود الدول إلى الممارسات الحمائية، ويصبح الحكم الاستبدادي أكثر جاذبية للشعوب التي تبحث عن قادة يُنظر إليهم على أنهم قادرون على حماية المصالح الوطنية.

وقد يعيد هذا التحول تشكيل التجارة العالمية بشكل كبير، ويغير سلاسل التوريد والأنظمة المالية، في حين يزيد أيضا من احتمال نشوب صراعات بين الدول، وخاصة وسط سباقات التسلح المتعددة حيث تتدافع البلدان لتعزيز قدراتها وسط تراجع الثقة في ضمانات الدفاع الأجنبية.

ولا تقتصر مثل هذه المخاطر على القوى العظمى التي تكتسب المزيد من الجرأة على ممارسة نفوذها دون قيود، بل على الدول الأصغر حجما التي قد تحاول غزو مناطق إقليمية دون خوف من تداعيات كبيرة وبثقة في القدرة على الإفلات من العقاب.
  • مراجعة مجهولة النتائج
ما يميز الوضع الحالي هو أن الولايات المتحدة، التي قادت بناء النظام الدولي القائم وصيانته واكتسبت ظاهريا مزايا كبيرة منه، تظهر الآن ميولا لمراجعة هذا الإطار بالذات. ولم تعارض القوى المهيمنة أبدا النظام الذي أنشأته وعززته في التحولات العالمية السابقة، بما في ذلك خلال الانتقال السلمي الوحيد للسلطة المهيمنة في التاريخ، عندما تولت واشنطن القيادة من لندن في منتصف القرن العشرين.

وبالتالي فإن التبعات الدقيقة للمراجعة الأميركية المحتملة تظل غير مؤكدة. ويتعرض النظام العالمي بالفعل لضغوط كبيرة، ما يعني أن أيّ تطورات أخرى تؤدي إلى انهياره الكامل قد توفر فرصة لتصميم نظام دولي جديد أكثر انسجاما مع احتياجات القرن الحادي والعشرين. لكن، لا يبدو أن هناك، على المدى القريب على الأقل، دولة أخرى قادرة وراغبة في لعب دور الولايات المتحدة.

وهذا ما يجعل التحول إلى عالم منقسم متعدد الأقطاب أكثر احتمالا. ولذلك، من المرجح أن تشهد السنوات المقبلة حالة متزايدة من الغموض وعدم الاستقرار والصراع.
والسؤال المركزي الآن هو ما إذا كانت هذه الفترة من الفوضى ستدفع في نهاية المطاف الجهود الرامية إلى إعادة بناء النظام العالمي في وقت لاحق من هذا القرن أم أن حالة الفوضى الدولية سوف تتواصل إلى أمد غير محدد.