​هناك أسئلة لا تمرّ بنا عبورًا عابرًا، بل تسكننا، تُعيد تشكيل وعينا، وتفتح في قلوبنا نوافذ لم نكن نعلم بوجودها. تبتُّ في عمق هذا التساؤل البسيط، فترددت أصداء الوجود بأكمله في كياني. سؤال، في ظاهره هادئ كنسمة، لكن في جوهره يوقظ أرواحًا ويحرّك بحورًا من المعنى.

هل نحن من نُطوِّع الوقت ليكون انعكاسًا لنوايانا، أم أن الوقت هو من يشكّلنا ويقودنا حيث يشاء؟ هل نحن أبناء اللحظة أم صنّاعها؟ هل ننتظر أن يمنحنا الزمان فرصته، أم نوقظ في كل لحظة فرصة جديدة لبناء عالم أجمل؟

الزمن، في ظاهره، يمرّ بنا جميعًا بالتساوي. لا يفرّق بين غني وفقير، ولا بين عالم وجاهل، ولا بين من يعيش في مدينة مضيئة ومن يسكن أطلال الحروب. لكنه، في جوهره، يتشكّل على هيئة من نكون، وما نختار أن نزرع فيه فهناك ميثاق خفي بيننا وبين الحياة: أن نسعى لنكون مرآةً تعكس أنوار الصفات الكامنة في الإنسان: المحبة، الرحمة، العدل، والوحدة.

في كل لحظة، يمنحنا الزمان ورقة بيضاء، ويقول لنا: اكتبوا أنتم معنى وجودكم.

فمنّا من يملأها بأنين الحقد، ومنّا من يحوّلها إلى دعاء حبٍّ لا ينقطع. منّا من يكتب فوقها أسوار الانقسام، ومنّا من يخطّ جسور التعايش حرفًا حرفًا.

التعايش ليس شعورًا عابرًا أو حالة مثالية حالمة، بل هو مقامٌ روحيّ عميق، مقامٌ من مقامات النضج الإنساني، لا يُبلغ إلا حين يزهر القلب بحبٍّ لا يُقيِّد، وفهمٍ لا يُفرّق، ونظرٍ يخترق المظاهر إلى الجوهر الواحد النقي.

أن نتعايش، يعني أن نختار أن نرى الإنسان لا مذهبَه، لا لونه، لا ثقافتَه، بل أن نرى نوره. أن نؤمن أن كلّ قلبٍ خُلِق ليحب، كل عقلٍ خُلِق ليَفهَم، كلّ نفسٍ خُلِقَت لتُعمِّر، لا لتُخيف.

في زمنٍ تتكاثر فيه الحواجز وتعلو فيه الجدران، يصبح التعايش فعلَ شجاعة، وعملًا روحانيًا عظيمًا، لا يقلّ شأنًا عن الصلاة. بل لعلّه صلاة تمشي على الأرض، يتجلّى فيها معنى الوحدة لا ككلمة تُقال، بل كحقيقة تُعاش.

هل سألنا أنفسنا:
كم مرة في يومنا نُصغي حقًا للآخر؟
كم مرة نُفسح له مكانًا في قلوبنا دون أن نُخضعه لمقاييسنا؟
كم مرة نُعطي من وقتنا لبناء صداقةً، لا لمجرد جدال أو نزاع؟
كل لحظة نختار فيها الفهم بدل الحكم، والرحمة بدل الغضب، نكون نبني حجرًا جديدًا في معبد التعايش.

وما الزمن إلا هيكلٌ نبنيه بهذا الشكل.
نحن لا نحيا داخل الزمن فقط، بل الزمن يحيا داخلنا، ينتظر قراراتنا، نوايانا، ومقدار نورنا. نحن من نُنشئ السلام أو الفُرقة، نحن من نختار: هل نكون أداةً للهدم أم واسطةً للبناء.

فدعونا نُكرِّم الوقت، لا بأن نعدّ ساعاته، بل بأن نملأه بما يجعل الأبدية تبتسم: في كل كلمة صادقة، في كل موقف عادل، في كل لقاء صادق بين قلبين مختلفين لكن متّحدين في الجوهر.

لنسأل أنفسنا من جديد، ولكن هذه المرة من مقامٍ أعلى:
هل نحن ما نفعله مع الوقت؟
أم ما نفعله من أجل الآخرين في هذا الوقت؟
أم ما نزرعه من حبٍّ في حقوله، لينبت غدًا سلامًا للأمم؟

كلما اخترنا أن نحب، وكلما اخترنا أن نتعايش، تقرّبنا خطوة من ملامح الجمال الإلهي في هذا العالم الفاني.
ودمتم في كنف الله سالمين ومؤيَّدين.