تنقضي هذه المحن كما انقضت من قبلها أزمنة عصيبة، وستشرق شمس جديدة على قلوب أنهكها القلق والانتظار. غير أننا، حين نخرج من هذه العاصفة، لن نكون كما كنّا. لقد تغيرنا، تعلّمنا، وتبدّل شيء في أعماقنا لن يعود كما كان. ولعلّ من أثمن ما اكتسبناه في هذا المخاض الصعب هو تلك القدرة الجديدة على الرؤية: أن نعيد النظر في مفهوم "الآخر"، في فكرة "الغريب"، في ذاك الحاجز الذي فصلنا طويلاً عن بعضنا البعض.
صرنا نرى الأمور بوضوح مختلف، وندرك كم كانت تلك النظرة القديمة، التي تقسم العالم إلى "نحن" و "هم"، عبئًا على الروح ومعوّقًا للتقدم. لم يعد الآخر تهديدًا ولا الاختلاف مدعاة للحذر، بل أصبح الامتداد الطبيعي لإنسانيتنا، صدى أرواحنا في أجساد وألسنة وظروف مختلفة. إننا جميعًا من طينة واحدة خُلقنا، تجمعنا حاجات وآمال وأحلام لا تفصلها الحدود والأعلام ولا تصنيف البشر. كل العالم وطننا، والناس جميعًا أهل، وإن لم نلتقِ بهم بعد.
لكن هذا التحول لا يحدث بسهولة، بل يأتي ثمرة انتصار كبير، انتصار على أحد أعتى أعدائنا: "الأنانية". فهي العدو الخفي الذي يتسلل إلى دواخلنا، يلبس ثياب الحب أحيانًا، ويختبئ خلف نوايا نبيلة أحيانًا أخرى، لكنه في جوهره، يقسم، ويعزل، ويصنع "الغريب". وما إن ننتصر عليه، حتى تبدأ ملامح عالم جديد بالتشكّل. عالم تنمو فيه الروحانية، ويعم فيه الانسجام، ويقوم فيه نظام أكثر عدلاً وإنسانية، هو النظام البديع الذي سيجد فيه السلام طريقًا إلى جسد وروح هذا العالم المنهك.
لكن هذا التغيير لا يولد من المؤتمرات ولا ينطلق من الشعارات. إن بدايته الحقيقية هي من حيث تبدأ الحياة ذاتها: من قلب الأسرة. فهناك، في دفء البيوت، تتشكل القيم الأولى، وتتربى النفوس على ما سيكون لاحقًا مصير أمة بأكملها. الأسرة هي الوطن الأول، والمدرسة الأولى، والمصنع الأول للمجتمع. وحين تُغرس فيها بذور المحبة، الوحدة، والاحترام الحقيقي، ينبت منها جيل جديد، قادر على بناء عالم جديد يستحق أن يُعاش.
وقد نعتقد أحيانًا أننا نعيش فعلاً بهذا النقاء، فالحب حاضر في علاقاتنا، والعطاء لا ينقطع. نهتم بأسرنا، نرعى أبناءنا، نُضحي لأجل من نحب، ونمنح من وقتنا وجهدنا الكثير. لكننا نغفل عن أمر دقيق: كيف تتسلّل الأنانية إلى لغتنا، إلى دوافعنا، إلى سلوكياتنا اليومية، دون أن نشعر.
ففي إحدى الأيام وفي لحظة صدق جمعتني ببعض الأمهات، كُشف هذا الخيط الخفي. تبيّن أن المشكلة ليست في التقصير، بل في النظرة. نُكثر من قول "أنا فعلت"، "أنا اهتممت"، "أنا ضحّيت"، وتصبح "أنا" مرآة نلمّع بها ذواتنا. بينما تُستخدم كلمات مثل "أنت" و"أنتم" و "هم" كثيرًا للمحاسبة والعتب وربما اللوم. هكذا، دون قصد، يتحوّل الحب إلى وسيلة تأكيد للذات، لا وسيلة اتحاد حقيقي مع الآخر.
ماذا لو جرّبنا التبديل؟ أن نجعل من "أنا" وسيلة محاسبة صادقة للنفس" حاسب نفسك في كل يوم"، لا مدحًا ذاتيًا، أما كلمة "أنت" فلنجعلها وسيلة تقدير وامتنان للآخر. أن ننتبه إلى الكلمة، لأنها جذر الشعور ومفتاح التوجّه. حين نبدأ من اللغة، نبدأ من الجذور، وحين نهتم بـ"أنت" بصدق، ونحاسب "أنا" بصدق أكبر، تبدأ الأنانية في الذبول. تهدأ، تضعف، ثم تبهت حتى تختفي.
وهنا فقط، نضع أقدامنا على أول عتبة في طريق التزكية. يصبح القلب أوسع، والنفس أخف، والروح أنقى. ونقترب أكثر من الإنسان الذي نحلم أن نكونه: حرًّا، صادقًا، محبًّا، متّحدًا مع العالم لا منقسمًا عنه. وربما، في تلك اللحظة، نسقط آخر حاجز في قواميس قلوبنا ، ونعرف أخيرًا أنه لا وجود لـ"الغريب".
ودمتم سالمين.
صرنا نرى الأمور بوضوح مختلف، وندرك كم كانت تلك النظرة القديمة، التي تقسم العالم إلى "نحن" و "هم"، عبئًا على الروح ومعوّقًا للتقدم. لم يعد الآخر تهديدًا ولا الاختلاف مدعاة للحذر، بل أصبح الامتداد الطبيعي لإنسانيتنا، صدى أرواحنا في أجساد وألسنة وظروف مختلفة. إننا جميعًا من طينة واحدة خُلقنا، تجمعنا حاجات وآمال وأحلام لا تفصلها الحدود والأعلام ولا تصنيف البشر. كل العالم وطننا، والناس جميعًا أهل، وإن لم نلتقِ بهم بعد.
لكن هذا التحول لا يحدث بسهولة، بل يأتي ثمرة انتصار كبير، انتصار على أحد أعتى أعدائنا: "الأنانية". فهي العدو الخفي الذي يتسلل إلى دواخلنا، يلبس ثياب الحب أحيانًا، ويختبئ خلف نوايا نبيلة أحيانًا أخرى، لكنه في جوهره، يقسم، ويعزل، ويصنع "الغريب". وما إن ننتصر عليه، حتى تبدأ ملامح عالم جديد بالتشكّل. عالم تنمو فيه الروحانية، ويعم فيه الانسجام، ويقوم فيه نظام أكثر عدلاً وإنسانية، هو النظام البديع الذي سيجد فيه السلام طريقًا إلى جسد وروح هذا العالم المنهك.
لكن هذا التغيير لا يولد من المؤتمرات ولا ينطلق من الشعارات. إن بدايته الحقيقية هي من حيث تبدأ الحياة ذاتها: من قلب الأسرة. فهناك، في دفء البيوت، تتشكل القيم الأولى، وتتربى النفوس على ما سيكون لاحقًا مصير أمة بأكملها. الأسرة هي الوطن الأول، والمدرسة الأولى، والمصنع الأول للمجتمع. وحين تُغرس فيها بذور المحبة، الوحدة، والاحترام الحقيقي، ينبت منها جيل جديد، قادر على بناء عالم جديد يستحق أن يُعاش.
وقد نعتقد أحيانًا أننا نعيش فعلاً بهذا النقاء، فالحب حاضر في علاقاتنا، والعطاء لا ينقطع. نهتم بأسرنا، نرعى أبناءنا، نُضحي لأجل من نحب، ونمنح من وقتنا وجهدنا الكثير. لكننا نغفل عن أمر دقيق: كيف تتسلّل الأنانية إلى لغتنا، إلى دوافعنا، إلى سلوكياتنا اليومية، دون أن نشعر.
ففي إحدى الأيام وفي لحظة صدق جمعتني ببعض الأمهات، كُشف هذا الخيط الخفي. تبيّن أن المشكلة ليست في التقصير، بل في النظرة. نُكثر من قول "أنا فعلت"، "أنا اهتممت"، "أنا ضحّيت"، وتصبح "أنا" مرآة نلمّع بها ذواتنا. بينما تُستخدم كلمات مثل "أنت" و"أنتم" و "هم" كثيرًا للمحاسبة والعتب وربما اللوم. هكذا، دون قصد، يتحوّل الحب إلى وسيلة تأكيد للذات، لا وسيلة اتحاد حقيقي مع الآخر.
ماذا لو جرّبنا التبديل؟ أن نجعل من "أنا" وسيلة محاسبة صادقة للنفس" حاسب نفسك في كل يوم"، لا مدحًا ذاتيًا، أما كلمة "أنت" فلنجعلها وسيلة تقدير وامتنان للآخر. أن ننتبه إلى الكلمة، لأنها جذر الشعور ومفتاح التوجّه. حين نبدأ من اللغة، نبدأ من الجذور، وحين نهتم بـ"أنت" بصدق، ونحاسب "أنا" بصدق أكبر، تبدأ الأنانية في الذبول. تهدأ، تضعف، ثم تبهت حتى تختفي.
وهنا فقط، نضع أقدامنا على أول عتبة في طريق التزكية. يصبح القلب أوسع، والنفس أخف، والروح أنقى. ونقترب أكثر من الإنسان الذي نحلم أن نكونه: حرًّا، صادقًا، محبًّا، متّحدًا مع العالم لا منقسمًا عنه. وربما، في تلك اللحظة، نسقط آخر حاجز في قواميس قلوبنا ، ونعرف أخيرًا أنه لا وجود لـ"الغريب".
ودمتم سالمين.