​يعيش ابناء الجنوب اليوم في مشهد سياسي واقتصادي واجتماعي معقد للغاية، يتداخل فيه أثر الحرب والصراعات الداخلية مع التدخلات الخارجية، ويبرز فيه نموذج حي لتطبيقات ما وصفته نعومي كلاين في كتابها "عقيدة الصدمة وصعود راسمالية الكوارث"، حيث تستغل النخب السياسية والاقتصادية الأزمات والكوارث لإعادة ترتيب الأمور بما يخدم مصالحها على حساب الشعب. شعب الجنوب، الذي تحمل عبء سنوات طويلة من المعاناة، خاض معارك حاسمة ضد مليشيات الحوثي وحرر أرضه بدماء ابنائه ، املاً في أن يأتي التحرير مع بداية جديدة تعيد بناء مؤسسات الدولة وتحسين الخدمات الأساسية التي انهارت بسبب الحرب، مثل التعليم والصحة والكهرباء والمياه.

لكن ما حدث على أرض الواقع كان بعيدا تماما عن هذه الامال، إذ لم تتحسن أوضاع الخدمات بل ازدادت سوءاً، حيث وجد شعب الجنوب نفسه مكبلاً  من خلال الشراكة السياسية التي دخلها ممثله السياسي، المجلس الانتقالي الجنوبي، ضمن إطار الحكومة الشرعية ومن المؤكد ان دخول المجلس لم يكن قراراً ارتجالياً، بل جاء نتيجة حسابات دقيقة ووعود بتحقيق مكاسب خدمية وتنموية وأمنية تخفف من معاناة الناس في المحافظات المحررة، وتفتح أفقاً سياسياً لإيصال صوت القضية الجنوبية في محافل القرار.

غير أن ما حدث فعلياً هو أن المجلس وجد نفسه داخل بنية حكومية عاجزة ومهترئة، مثقلة بالصراعات، ومكبلة بالتدخلات الإقليمية والدولية، عاجزة عن اتخاذ قرارات سيادية أو تنفيذ إصلاحات حقيقية. هذه المشاركة، التي راهن عليها كثير من الجنوبيين كمدخل مرحلي لتحسين الأوضاع، تحولت إلى قيد سياسي يربك حركة المجلس، ويحد من قدرته على التعبير عن تطلعات قاعدته الشعبية، التي باتت ترى أن الوجود في حكومة لا توفر كهرباء ولا أمن ولا رواتب، يضعف شرعية المجلس كممثيل لشعب الجنوب.

الكثير من أبناء الجنوب باتوا يحملون المجلس الانتقالي الجنوبي المسؤولية المباشرة عن تدهور الأوضاع في المناطق المحررة، باعتباره الحامل السياسي الذي فوض من قبل الشعب لانتزاع حقوقه والدفاع عن قضيته الوطنية فالثقة الشعبية التي منحت للمجلس لم تكن بياضاً مفتوحاً، بل جاءت مشروطة بتحقيق مكاسب ملموسة على الأرض، تبدأ بتحسين مستوى الخدمات الأساسية، وتثبيت الأمن، وتفعيل مؤسسات الدولة الجنوبية، وتنتهي بدولة جنوبية مستقلة.

إلا أن الواقع أثبت أن المجلس، بعد دخوله كشريك في حكومة عاجزة، لم يتمكن من استخدام نفوذه السياسي لتحقيق أي من تلك الأهداف، بل بدا أحياناً وكأنه جزء من منظومة العجز نفسها، الأمر الذي عزز شعور الإحباط والغضب لدى الشارع الجنوبي. هذا الشارع الذي يرى اليوم أن التفويض الشعبي لم يكن ليمنح لولا الوعود الكبيرة التي أُطلقت، والتي ما زالت معلقة دون تنفيذ، في وقت تتزايد فيه معاناة الناس، وتغيب فيه المحاسبة، وتتاكل فيه الثقة بالممثل السياسي الذي يفترض أن يكون في مقدمة الصفوف للدفاع عن مصالحهم.

أمام المجلس الانتقالي الجنوبي خياران لا يخلو أحدهما من الكلفة، وكلاهما يحمل تبعات مصيرية.

 الخيار الأول هو الاستمرار في الشراكة مع الحكومة الشرعية، رغم ما أفرزته من إخفاقات متكررة، وانهيار للخدمات، وتاكل للثقة الشعبية. هذا المسار وإن بدا في ظاهره أقل تصادمية، إلا أنه يحمل في طياته مخاطر سياسية جسيمة، على رأسها تاكل الحاضنة الشعبية التي تعد نقطة القوة الأهم وربما الوحيدة  للمجلس في معادلة الداخل والخارج. فاستمرار الفشل في تحسين الأوضاع سيجعل المجلس في نظر كثير من الجنوبيين جزءاً من الأزمة، لا حاملاً لحلها، وهو ما قد يفقده شرعيته التمثيلية شيئاً فشيئاً.

أما الخيار الثاني، فهو الخروج من عباءة الشراكة ، وفرض سيطرة كاملة على الموارد والمنافذ، مع تبني مشروع وطني واضح يعيد من خلاله بناء مؤسسات الدولة الجنوبية بشكل جاد وفعال. غير أن هذا الخيار يضع المجلس في مواجهة مباشرة مع قوى إقليمية ودولية ذات مصالح في الجنوب، ولن يكون تجاوزه ممكناً إلا من خلال تحرك سياسي ودبلوماسي متزن، يطمئن المجتمعين الإقليمي والدولي بأن الجنوب لن يتحول إلى بؤرة صراع، وأن مصالحهم لن تهدد، مع ضمان احترام تطلعات شعب الجنوب في تقرير مصيره.

نجاح هذا المسار يتطلب قوة على الأرض، ورؤية استراتيجية، وقدرة على إدارة التوازن بين الواقع المحلي وموازين القوى الإقليمية، وهي معركة إثبات وجود تحتاج إلى حنكة لا تقل عن الشجاعة.