​في عالم العلاقات الدولية، لا تُقاس الفاعلية السياسية فقط بالتحركات العسكرية أو الاتفاقات المعلنة، بل أحيانًا تكون القوة الحقيقية في القدرة على خلق بيئة استراتيجية مضلّلة للخصوم، تساهم في إضعاف جاهزيتهم دون إطلاق رصاصة واحدة. وفي هذا السياق، يمكن قراءة سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاه إيران والصين على أنها كانت، بوعي أو بدونه، جزءًا من هندسة معقدة أضعفت مناعة إيران ضد الضربات المفاجئة، ومهّدت لعزلها سياسيًا في لحظات مفصلية.

منذ اللحظة الأولى لخروجه من الاتفاق النووي عام 2018، بدا أن ترامب يتبنى سياسة "أقصى ضغط" ضد طهران، لكن دون تحويل هذا الضغط إلى مواجهة عسكرية. هذه المعادلة خلقت وهمًا استراتيجيًا لدى القيادة الإيرانية، مفاده أن الإدارة الأمريكية، رغم عدائها، غير معنية بالحرب تقودها هي أو ذراعها العسكري في المنطقة اسرائيل، وأن الردود المتوقعة ستبقى ضمن حدود العقوبات الاقتصادية وحروب التصريحات الإعلامية. هذا الإدراك شجّع إيران على الاسترخاء العسكري النسبي، مع الحفاظ على منسوب محدود من التوتر عبر الأذرع الإقليمية. لكنه أيضًا رسّخ قناعة شبة تامة بأن واشنطن، وحتى إسرائيل دون واشنطن، لن تذهب بعيدًا في التصعيد العسكري المباشر. سياسة ترامب، القائمة على التهديد مع غياب الفعل العسكري الحاسم، ساهمت في خلق ما يمكن وصفه بـ"التخدير الاستراتيجي"، حيث باتت إيران تتوقع أن واشنطن لن تتورط في مغامرة جديدة بعد تجربتي العراق وأفغانستان، وبالتالي قلّلت من استعدادها لردع مفاجآت عسكرية.

في موازاة ذلك، شنّ ترامب واحدة من أعنف الحملات الاقتصادية ضد الصين، من خلال فرض رسوم جمركية ضخمة، وضرب شركات التكنولوجيا الكبرى مثل "هواوي". وبالرغم من اللهجة العدائية، لم تُترجم هذه المعارك إلى قطيعة استراتيجية كاملة، بل ظلت الصين تتخذ مواقف محسوبة، بل ومهادِنة في كثير من ملفات السياسة الدولية، خاصة في الشرق الأوسط. اللافت أن الصين، رغم علاقتها الاستراتيجية بإيران، لم تُبدِ أي رد فعل نوعي أمام ما تعرضت له طهران من استهدافات عسكرية مباشرة، مثل اغتيال قاسم سليماني أو الهجمات على منشآت نووية ومواقع الحرس الثوري. وقد فُسّر هذا السلوك على أنه إما انعكاس لمبدأ الحذر الصيني التقليدي، أو نتيجة تفاهم ضمني أو توازن مصالح فُرض خلال سنوات ترامب، فاختارت بكين التركيز على معاركها الاقتصادية، مع تأجيل الدخول في صراعات أمنية دولية لا تخدم مصالحها المباشرة.

حين جاءت الضربة الإسرائيلية فجر الجمعة في العمق الإيراني، وجدت طهران نفسها في وضع هشّ: انكشاف دفاعي واضح، بيئة إقليمية غير مستعدة للدخول في مواجهة دفاعًا عنها، غياب ردع صيني أو روسي فاعل، وصدمة داخلية وخارجية لدى من كانوا يراهنون على قدرة النظام في إشعال المنطقة والحاقدين ضرر كبير باسرائيل. هذه الضربة، سواء استمرت لساعات أو أيام أو بداية لتصعيد أوسع، كشفت إلى أي حدّ ساهمت سنوات "الضغط بلا حرب" في بناء وهم الحصانة لدى صانع القرار الإيراني.

هنا، يمكن القول إن سياسات ترامب لم تكن مجرد استعراضات إعلامية أو مناورات انتخابية، بل ساهمت فعليًا في تغيير المعادلة الاستراتيجية في المنطقة. لقد أُضعفت إيران ليس فقط بفعل العقوبات، بل بفعل خداع التوقعات السياسية، وعُزلت بفضل صمت الحلفاء المفترضين، وفي مقدمتهم الصين وروسيا. صحيح إن الضربة الأولى لا تنتصر وحدها في المعركة، لكنها تحدد شروطها. وربما كانت سياسات ترامب، بكل تناقضاتها الظاهرة، هي التي كتبت سيناريو تلك الضربة... منذ سنوات.