تحولات سياسية واقتصادية تعيد رسم المشهد الإقليمي وبروز حل الدولتين في اليمن> تشهد المنطقة العربية تحولات جذرية تعيد رسم المشهد السياسي والاقتصادي والجيوسياسي، مدفوعة بصراعات داخلية، تدخلات خارجية، وأزمات متفاقمة. في ظل هذه المتغيرات تتبلور ملامح نظام إقليمي جديد يتجاوز الأنماط التقليدية للصراع، ليشمل إعادة توزيع النفوذ وإعادة تعريف العلاقات بين القوى المحلية والدولية.
- اليمن بين تفكك الدولة وإعادة تشكيل الخارطة السياسية
تمر الأزمة اليمنية بمرحلة حاسمة مع استمرار حالة الجمود السياسي وتعمق الأزمة الاقتصادية. تعيش البلاد على وقع الانهيار الاقتصادي، إذ تواصل العملة الوطنية فقدان قيمتها وسط ارتفاع غير مسبوق للأسعار، ما أدى إلى تفاقم المعاناة الإنسانية. في المقابل، يبرز المجلس الانتقالي الجنوبي كقوة فاعلة في الجنوب، في حين يواصل الحوثيون تعزيز قبضتهم على الشمال، مدعومين بإيران، ما يجعل مستقبل البلاد مفتوحًا على احتمالات متعددة، من بينها العودة إلى نموذج الدولتين الذي كان قائمًا قبل 1990.
- مشروع حل الدولتين وعودة دولة الجنوب
في ظل التحولات المتسارعة، يبرز حل الدولتين كخيار واقعي للخروج من الأزمة اليمنية المستعصية، حيث تقتضي المصلحة الإقليمية والدولية إعادة النظر في صيغة الوحدة التي أثبتت فشلها منذ تحقيقها عام 1990. على مدار العقود الثلاثة الماضية، لم تفلح الوحدة اليمنية في تحقيق الاستقرار، بل أفرزت صراعات سياسية وعسكرية أرهقت البلاد، وأدت إلى تمركز السلطة والثروة في يد فئة محددة على حساب بقية الأطراف.
رغم محاولات التجاهل والتهرب من الاعتراف بحقيقة أن دولة الجنوب باتت تمثل واقعًا سياسيًا واجتماعيًا متصاعدًا، فإن المعطيات على الأرض تؤكد أن هذا الخيار يسير بثبات نحو التحقق. القوى الدولية الفاعلة، سواء في المنطقة أو خارجها، تدرك أن استمرار الوضع الحالي لن يؤدي سوى إلى مزيد من الانهيار، ما يجعل الاعتراف بحق الجنوب في تقرير مصيره خطوة حتمية ضمن أي تسوية سياسية شاملة.
إقليمياً، تدرك دول الخليج أهمية وجود جنوب مستقر كحاجز جيوسياسي يمنع التمدد الإيراني في المنطقة، ويسهم في تأمين خطوط الملاحة الدولية في باب المندب. كما أن استعادة الدولة الجنوبية ستتيح لأبناء الجنوب بناء مؤسسات قادرة على تحقيق التنمية بعيدًا عن صراعات الشمال، التي باتت تستنزف كل موارد البلاد دون حلول تلوح في الأفق.
على الصعيد الدولي، بات واضحًا أن القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، بدأت تعيد النظر في موقفها من القضية الجنوبية، خاصة مع تعاظم دور المجلس الانتقالي الجنوبي كفاعل سياسي وعسكري قادر على فرض معادلات جديدة في المنطقة.
- لبنان.. نهاية مرحلة حزب الله وصعود الدولة
يشهد لبنان تحولات سياسية غير مسبوقة مع تراجع نفوذ حزب الله، الذي ظل لسنوات القوة المهيمنة في البلاد. جاء هذا التراجع نتيجة عوامل داخلية وخارجية، من بينها الأزمة الاقتصادية التي أثرت بشكل مباشر على تمويل الحزب، إضافة إلى الضغوط الدولية التي تطالب بتحجيم دوره في السياسة اللبنانية.
انتخاب العماد جوزيف عون رئيسًا للجمهورية يعكس توجهًا نحو إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس جديدة. ومع ذلك، لا تزال البلاد تواجه تحديات اقتصادية كبرى، أبرزها انهيار العملة الوطنية وتفاقم معدلات الفقر، ما يجعل التعافي الاقتصادي مرهونًا بمدى قدرة الحكومة على تنفيذ إصلاحات جذرية، وتحقيق استقرار سياسي يفتح الباب أمام استثمارات خارجية تعيد تنشيط الاقتصاد.
- سوريا.. مرحلة انتقالية معقدة بعد سقوط النظام
مع سقوط نظام بشار الأسد، تدخل سوريا مرحلة جديدة تتطلب إعادة بناء الدولة من الصفر. يواجه الرئيس الجديد أحمد شرع تحديات هائلة، أبرزها إعادة هيكلة مؤسسات الدولة المنهارة، وإدارة التوازنات الداخلية المعقدة، في ظل وجود قوى محلية مسلحة وتحالفات إقليمية متشابكة.
على المستوى الدولي، تبقى سوريا ساحة صراع بين القوى الكبرى. فبينما تحاول روسيا الحفاظ على نفوذها في البلاد، تتحرك الولايات المتحدة وتركيا لإعادة تشكيل المشهد بما يخدم مصالحهما. في هذا السياق، تلعب إيران دورًا مزدوجًا، حيث تسعى للحفاظ على وجودها العسكري عبر دعم الميليشيات المحلية، في حين تواجه ضغوطًا دولية لإعادة النظر في استراتيجيتها الإقليمية.
- فلسطين.. تهديد التهجير وتغير المعادلات السياسية
تعيش القضية الفلسطينية مرحلة دقيقة مع تصاعد التهديدات بتهجير الفلسطينيين في غزة، وهو سيناريو قد يؤدي إلى تغييرات ديموغرافية وسياسية واسعة. تدفع الولايات المتحدة وإسرائيل باتجاه فرض واقع جديد في المنطقة، ما يزيد من تعقيد المشهد السياسي ويهدد استقرار الدول المجاورة، مثل الأردن ومصر.
- الصراع الإقليمي.. تنافس تركي - إيراني على النفوذ
تسعى كل من تركيا وإيران إلى توسيع نفوذهما في المنطقة، مستفيدتين من الفراغ الذي خلفته التغيرات السياسية في الدول العربية. تركيا، التي عززت وجودها العسكري في سوريا وليبيا، تعمل على توسيع نفوذها الاقتصادي في الخليج وشمال إفريقيا، مستغلة التحولات الجيوسياسية لصالحها.
في المقابل، تواجه إيران تحديات داخلية وخارجية متزايدة، إذ باتت مضطرة إلى إعادة النظر في استراتيجياتها الإقليمية، خاصة مع تزايد الضغوط الدولية والعقوبات الاقتصادية التي تؤثر على قدرتها على دعم حلفائها في المنطقة.
المعادلة الدولية.. واشنطن توازن بين أوكرانيا والشرق الأوسط
في ظل الصراع الدائر في أوكرانيا، باتت الولايات المتحدة تعيد ترتيب أولوياتها الجيوسياسية، حيث تحاول موازنة دعمها لكييف مع الحفاظ على مصالحها في الشرق الأوسط. في هذا السياق، تبرز إمكانية تقديم تنازلات لروسيا في بعض الملفات الإقليمية مقابل استمرار الضغوط على موسكو في أوكرانيا.
هذا التوازن الدقيق يعكس تعقيدات المشهد العالمي، حيث لم تعد الولايات المتحدة قادرة على فرض رؤيتها منفردة، في ظل صعود قوى أخرى مثل الصين وروسيا، التي تسعى إلى تعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، سواء عبر التعاون الاقتصادي أو التدخل العسكري المحدود.
- خاتمة.. نظام إقليمي جديد قيد التشكل
تشير كل هذه التحولات إلى أن الشرق الأوسط يشهد مرحلة إعادة تشكيل شاملة، حيث تتغير موازين القوى، وتُعاد صياغة التحالفات، وتبرز معادلات جديدة تعكس تراجع النماذج التقليدية للصراع. في هذا السياق، تبدو الدول العربية أمام خيارين: إما الاستفادة من هذه التحولات لبناء استراتيجيات تحقق الاستقرار والتنمية، أو البقاء رهينة للتدخلات الخارجية والتوازنات الدولية التي تتحكم في مصير المنطقة.
إن إعادة رسم خارطة المنطقة باتت حقيقة موضوعية لا يمكن تجاهلها، وحل الدولتين في اليمن، وعودة دولة الجنوب، لم يعد مجرد طرح نظري، بل واقع بدأ يتشكل رغم كل محاولات التهرب من الاعتراف به. فهل تكون المرحلة القادمة فرصة لإنهاء أزمات المنطقة أم بداية لصراعات جديدة؟