أخر تحديث للموقع
اليوم - الساعة 02:45 م بتوقيت مدينة عدن

مقالات الرأي

  • ​أصداء "الحلميّة".. ليه يا زمان ما سبتناش أبرياء؟

    أحمد عبداللاه




    ​لم تُطوَ رايات الماضي أو تبهت سيرته، ما يزال يتغلغل فينا على نحو مضطرب. كأنه نسيج من فصول بعيدة ومتفرقة تشابكت في شواش كوني، لكن أثره يظل ناصعاً كقمر يتأرجح عند حافة الأفق، حاضراً رغم البعد.
    أعزائي أبناء الماضي والحاضر القادمين من دروب الزمن، هذه بداية قد استحضرت ما يشبه صدى "قفا نبك"، لكن الأطلال هنا ليست "بسِقْطِ اللّوَى" وإنما في أرواح تاهت. إنه حديث الزمن اللاحق أيضاً، الذي أخذ منا البراءة، وللقارئ أن يفتش في الذاكرة عن (تتر) دراما قدّمت لنا نموذجاً قدرياً قبل أن تجتاحنا رياح التغيير العنيفة.

    ما الماضي الذي تعلقت به جماجمنا؟ ولماذا يأخذنا الحنين إليه؟ وأي حديث عن زمن آخر (لا رعاه الله) سلبنا البراءة؟ ذلك ما أدركناه في أجزاء (ليالي الحلميّة) التي وثّقت نموذج مصر في التحولات بين أزمنتها المتباينة. وقدم لنا أسامة أنور عكاشة محتوى عميقا بقالب درامي شعبي وحوار فلسفي بالدارجة المصرية. "الحلمية" بلياليها وتفاعلاتها أطلقت نداء الوعي بأن التقلبات العاصفة آتيةٌ في أي مكان وزمان، ولكل بلد طريق.

    نجح المسلسل بأسلوب سردي متقن في تكثيف جدليات الهوية الوطنية والتغيرات الثقافية ليصبح أشبه بسجل متحرك لروح الزمن، يتجاوز حدود الدراما التقليدية ليحاكي نبض الواقع وتبدلاته المستمرة. كأنه مرآة عكست التحولات العميقة التي شهدها المجتمع المصري عبر العقود، منذ أجواء الحقبة الملكية، مرورًا بثورة يوليو 1952، ووصولًا إلى الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات، ثم صدمات الخصخصة وما تبعها من سباق محموم نحو الثروة.

    أمام الشاشة، عشنا زمن سليم البدري الذي ينتمي إلى شريحة الباشاوات وسليمان غانم ابن الطبقة الشعبية الصاعدة، وصراعهما في ليالي الأحياء الأنيقة (قبل أن تصبح حَارات مكتظة وفقيرة)، ورأينا نازك (آه من نازك) مدفوعة بالحب والطموح والكبرياء، تمضي في لعبتها بدهاء كي تُسقطَ القطبين في شباكها، تمامًا كما تفعل الذكريات الآن، توزعنا بين زمنين لا يدرك أحد أيهما الغائب وأيهما الحاضر.

    أظهرت "ليالي الحلمية" حقيقة أن المجتمع لا يمكنه أن يسير بانسياب عفوي بريء وإنما هناك مفاجآت وتحولات، وتلك هي تعقيدات التطور الاجتماعي منذ أن حملت (تفاحة عدن) بذور العصيان وفتحت هاوية تحت أقدامنا.

    لم تأت حكايتنا متسقة مع "حلميّة مصر" التي كانت شاهدة على تبدلات ليست خارجة عن المألوف في الشرق العربي، بل و(ناعمة) للغاية مقارنة بما حل بنا وبالأرض التي نقف عليها. لم نكن نحسب للتبدلات الحادة (رغم الأحداث)، حتى داهمنا ما هو أدهى وتغيرت من بعده الحياة بطريقة مجنونة أفقدتنا القدرة على استيعاب الانتقال عبر المراحل وفق تناسب موضوعي كما يجري في بقاع العالم.

    نحن جيل المشاهدين الذي ردد كلمات سيد حجاب في (تتر) الحلمية بحروفه وفواصله وعباراته البسيطة المذهلة و بلحنه العبقري، وأيقنا أنه "من اختمار الحلم يجي النهار" لكن مع ذلك كان قدرٌ آخر يتربص بنا، ولم ندرِ حينها أن وقتاً قصيراً يفصلنا عن إعلان تاريخي للضياع و التقلبات العنيفة التي لا تتشابه مطلقاً مع ما قدمته تلك الدراما العربية. كان زلزالاً وطنياً ليس ذاك الذي تتوازن الأرض من بعده، وإنما بداية لسلسلة هزات مدمرة متتابعة وعصية على أن تُعرض في مشهد درامي كما فعل المخرج الكبير إسماعيل عبد الحافظ في تفاعلات "الحلمية".

    "ليه يا زمن ما سبتناش أبرياء"؟ كبرنا خارج الأعمار التي حلمنا بسيرتها الهادئة المثمرة، وتعاظم الزمن الثقيل في دمائنا، وفي منعرجات المشاوير الصعبة تبعثرت الخطى.

    وكأن "ليالينا" أتت من أساطير الخروج التوراتي أو عشنا (ألوف) السنين منذ قصة الخلق السومرية، قياساً بالمتغيرات الرهيبة التي يبدو أنها ما تزال مستمرة ونشطة، وكأنها تمضي بنا دون هوادة نحو أبواب القيامة. فهل من زمن آخر؟.. لا إجابة.

المزيد من مقالات (أحمد عبداللاه)

Phone:+967-02-255170

صحيفة الأيام , الخليج الأمامي
كريتر/عدن , الجمهورية اليمنية

Email: [email protected]

ابق على اتصال