الثلاثاء, 08 أبريل 2025
117
لم يعد الفضاء الإلكتروني مجرد نافذة للتواصل وتبادل المعلومات، بل أصبح ميدانًا رحبًا للجدل والصراع، ومتنفسًا للتعبير عن الرأي، لكنه في المقابل تحول أيضًا إلى حلبة مشحونة بالمراشقات الكلامية، والمماحكات السياسية، ومرتعًا لجرائم نشر تهدد السلم الاجتماعي، وتنتهك الحقوق الشخصية والجماعية.
ورغم هذا التحول الرقمي الهائل الذي فرضته ثورة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، لا تزال القوانين المنظمة للصحافة والإعلام في اليمن، تراوح مكانها متمسكة بنصوص متصلبة تقادمت وأصبحت بحكم الماضي، لا تواكب تحديات العصر ولا تستوعب طبيعة الوسائل الجديدة للنشر والتأثير. فالفراغ التشريعي في التعامل مع هذا الواقع الرقمي المتسارع، أفرز حالة من التمادي، سمحت بانتشار الجرائم الإلكترونية بشكل مفزع، دون رادع فعلي يستمد قوته من منظومة تشريعية رقمية متكاملة، تُواكب تحولات التقنية وتستند إلى معايير الحوكمة الرقمية وحقوق البيانات والسيادة السيبرانية.
وما يؤسف له أنها تعددت أشكال الجرائم الإلكترونية، من السب والقذف والتشهير، إلى الابتزاز والتحريض، مرورًا بتزييف الوعي وتفكيك النسيج الاجتماعي، عبر خطابات الكراهية والتحريض الممنهج، وهو ما شهدناه خلال اليومين الماضيين منتشرًا في فضاء الحراج الفيسبوكي.
ورغم هذه المخاطر، نجد أن السلطة التشريعية لم تتعاطَ بالجدية المطلوبة، وظلت معظم القوانين المعمول بها أسيرة مناخات ما قبل تاريخ الإنترنت، ناهيكم عن الذكاء الاصطناعي.
وما يزيد الطين بلة، هو هشاشة الثقافة الإلكترونية لدى كثير من الفاعلين في منظومة العدالة، حيث يعتمد بعض القضاة على اجتهادات شخصية أو تفسيرات مرنة لقوانين لا تصلح لفهم طبيعة الجريمة الرقمية، ولا لعناصرها ولا لأدوات ارتكابها.
وفوق هذا وذاك تبقى السلطة القضائية هي الحارس الأمين للحقوق والحريات إلا أنها اليوم بحاجة ماسة إلى تعزيز قدراتها في التعامل مع قضايا النشر الإلكتروني بكل حزم وجدية.
وهذا لا يكون إلا من خلال دورات تدريبية مكثفة، وبناء فهم عصري لآليات التكنولوجيا الرقمية.
في الوقت نفسه، فإن السلطة التشريعية مطالَبة بتحمل مسؤوليتها الدستورية، عبر تعديل التشريعات البالية، وإقرار قوانين متخصصة في مكافحة الجرائم الإلكترونية، توازن بين حماية حرية التعبير ودرء الفتنة وضمان السلام والسلم الاجتماعي.
إن ثقافة الكراهية التي تمارس اليوم هي أحدى أخطر مظاهر الاستخدام السلبي للتواصل الاجتماعي، من خلال شيوع ثقافة "المراشقات الكلامية"، والتي سرعان ما تنقلب إلى تراشق طائفي أو مناطقي أو سياسي. وللأسف، كثير من هذه الخطابات تتم برعاية غير مباشرة من بعض النخب، التي تحوّل المنصات الرقمية إلى أدوات صراع، بدل أن تكون منابر تنوير.
ولعل غياب ضوابط الثقافة الإلكترونية، وضعف ترشيد الخطاب السياسي والإعلامي، أسهما في إذكاء هذه الظاهرة الخبيثة، وهذا يتطلب حملات توعية مستمرة، وخطاب إعلامي مسؤول، يعلي من قيم التسامح والمحبة، بدلًا من لغة الكراهية والاصطفاف الغبي مع فلان ضد فلان والعكس.
إن مكافحة الجرائم الإلكترونية تبدأ بتحديث البنية التشريعية، وإنشاء أجهزة متخصصة في الرصد والتحقيق، ودعم القضاء بمرجعيات رقمية دقيقة.
فكما أن وسائل الجريمة تطورت، يجب أن تتطور معها أدوات المكافحة، بفكر قانوني عصري، وإرادة تشريعية حقيقية.
وحده القانون حين يكون عادلًا وعصريًا هو الكفيل بتحقيق التوازن بين الحريات والضوابط، بين التعبير والمسؤولية، وبين الفضاء الرقمي ومقتضيات السلم الاجتماعي
كما أن إطلاق برامج وطنية للتوعية الرقمية، يُعد ضرورة، وليس ترفًا، لحماية الأفراد والمجتمعات من الوقوع في فخ الجرائم، عن جهل أو سوء نية.
إلى جانب ذلك، فإن إشراك جهات تشريعية وقضائية وأمنية وتقنية، إلى جانب هيئات مختصة بالأمن السيبراني وحقوق البيانات، وبمساهمة من القطاعين الأكاديمي والخاص في بلورة رؤية تشريعية متكاملة، كفيل بإنتاج بيئة قانونية مرنة، تواكب تطور الوسائل وتلتزم بروح القانون وعدالته.