أخر تحديث للموقع
اليوم - الساعة 03:15 ص بتوقيت مدينة عدن

مقالات الرأي

  • من داخل البيوت العدنية المؤثرة.. عائض وبدر باسنيد

    د. هشام السقاف




    لآل باسنيد في عدن -مدينة السحر والجمال- أثر يغور في نفوس من يحبون هذه المدينة، ويتتبعون حركة البحر عند إقدامها وشموخ شمسان على رأسها، فلا يستطيع أحد -إلا جاحد- لأن يغمط آل باسنيد شيئا من دورهم الإنساني ثقافيا كان أو تجاريا أو اجتماعيا سياسيا، في هذه المدينة، فجانب من التأصيل الثقافي للمدينة عدن والتي تتدفأ في حضن فوهة البركان الخامد، صنعه رجال أفذاذ مثل عبدالله باذيب ومحمد علي باشراحيل ومحمد سالم علي وعايض باسنيد والبيومي والبيحاني وباخبيرة وعبدالقوي مكاوي وعبدالله عبدالمجيد الأصنج والصافي ومحمد سالم باسندوه وعبدالرحمن جرجرة ومحمد علي الجفري وآل كتبي وآل جرادة وآل لقمان وآل غانم، وكوكبة طويلة ومضيئة من الرجال.

    كان الواحد منهم بحد ذاته قصة نضال مشرفة، وعلى خطى أولئك سار جيل آخر يعارك معترك الحياة بعد أن استقرت راية الحكم بيد الجبهة القومية في 30 من نوفمبر عام 1967م يوم الاستقلال الوطني، لتقصي السلطات من يومها الأول عدن؛ صندوق عجائب الدنيا، من الحياة السياسية والريادة وتحتكره لكل وافد عليها دون سبب واضح سوى التوجس من طلائع المدينة ورجالاتها المتعلمين والمقتدرين على إدارة شؤون عدن، بكل ما وصل إليه العلم أوانئذ، بحيث ضاهت عدن بأمثال هؤلاء الرجال؛ مدن مشارق الأرض ومغاربها، بجعلهم عدن مدينة كوسموبوليتيكن يشار إليها بالبنان بمستوى الخدمة الإدارية الراقية المقدمة في ثاني ميناء في العالم - ميناء عدن على سبيل المثال لا الحصر.

    يبقى أن آل باسنيد قد انخرطوا في صناعة مجدهم الخاص ضمن السياق المجتمعي الهادر في عدن بعد الحرب العالمية الثانية.

    فكان الأستاذ عائض باسنيد نصيرا ورديفا للسياسي البارز عبدالله عبدالرزاق باذيب ضمن توليفة العمل اليساري وبذوره الأولى في عدن إلى جانب غيره من التنظيمات والأحزاب السياسية التي ظهرت في الخمسينيات الماضية دون أن ننسى بروز النقابات العمالية ودورها المؤثر في الساحة العدنية.

    ولعلي أتذكر حين التقيت بالأستاذ عائض باسنيد في الحالمة تعز قبل الوحدة وقد نال العمر من المفكر اليساري العجوز، لكنه كان رائعا بملامح البساطة والسكينة واللهجة العدنية، ووجدت من حوله ثلة من رجال جبهة التحرير النازحين في تعز وهم يجلون الرجل ويضعونه في محلة وجدانية عميقة في نفوسهم بما يستمعون من أقواله وحكاياته التاريخية وسرده لمجريات الوقائع بسلاسة ودراية وحيادية، لا يتقن إتيانها إلا رجل له مقدرات عايض باسنيد استطاع أن يصطاد خارج مياه تنظيمه باقتدار واكتسب حب العشرات ممن يختلفون معه سياسيا.

    ولعل الشعر كان أحد أدواته المتقنة بكسب ود وحب هؤلاء البعيدين عنه حزبيا.

    وكانت يومها خريدة شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري العصماء التي ألقاها في عدن أثناء زيارته التاريخية لها عام 1981م هي ما يتردد على ألسنة النخب المثقفة في ذلك الوقت، لكن للقصيدة بصوت عائض باسنيد الهادئ والريان تكتسب بعدا آخر خلابا وفاعلا في النفس.

    وبعض من أبيات قصيدة (الغضب الخلاق) يقول:

    من موطن الثلج زحافا إلى عدن

    خبت بي الريح في مهر بلا رسن

    كأسي على صهوة منه يصفقها

    ما قيض الله لي من خلقه الحسن

    من موطن الثلج من خضر العيون به

    لموطن السحر من سمراء ذي يزن

    من كل ملتفة الكشحين ناعسة

    ميادة مثل غصن البانة اللدن

    يا للتصابي أما ينفك يجذبني

    على الثمانين جذب النوق بالعطن

    قالوا أما تنتشي إلا على خطر

    فقلت ذلك من لهوي ومن ددني

    سبحان من ألف الضدين في خلدي

    فرط الشجاعة في فرط من الجبن

    لا أتقي خزرات الذئب ترصدني

    وأتقي نظرات الأدعج الشذن

    كان عائض يسير على خطى أبيه وجده في التجارة في تعز دون أن يتخلى عن أفكاره أبدا في المدينة الحالمة.

    وكم شد انتباهي عندما سمعته وهو يوصي أحدهم أن يبتاع له (منشفة) صغيرة للقات كان قد طلبها الأستاذ أبوبكر باذيب وهو في قمة هرم الحزب دليلا على زهد هذا الفصيل من الناس في المتاع الزائد.

    أما بدر باسنيد فقد كان أيقونة الحراك الجنوبي وسيده دون منازع.

    يمتلك القدرات الخطابية والبلاغية في إيصال رأيه الذي يصب في تيار الجنوب الهادر باستعادة دولته الوطنية بعد أن قضت دبابات الشمال التي دخلت الجنوب احتلالا وبغيا وعدوانا في 1994/7/7م على ما تبقى من وحدة 22 مايو 1990م.

    وربما كانت طبيعة المحامي هي ما تعطيه قوة الفكرة وسهولة إيصالها للمتلقي مع تطعيمها بالبراهين والأدلة الناصعة.

    وفي مجال الكتابة، وغالبا ما تكون على صفحات "الأيام" الغراء، فإنه يحمل نفسه والصحيفة جهدا مضاعفا لنارية كلماته التي لا تخشى في الحق لومة لائم.

    فظل على نهجه مقاوما سلطة الاحتلال كطود شامخ لا تلين له قناة.

    أتذكر يوما كنا في ضيافة الأستاذ هشام باشراحيل على الغداء - وما أكثر المناسبات التي يفتعلها الباشراحيل هشام لجمع الناس على مأدبته- وكان جزء من الحاضرين من أركان سلطة الاحتلال، وبعد الغداء وعلى نكهة الشاي العدني المميز انفرد أحمد عبيد بن دغر ليجلدنا بدرس عن الوحدة اليمنية وأهميتها.. إلخ، ثم هم واقفا ليغادر بحجة أنه لا يريد أن (يخزن) ذلك اليوم، لكني استوقفته بأنه لا يجوز أن يسمعنا رأيه في الوحدة دون أن يسمع ردنا عليه، وأيدني بقوة الأخ بدر باسنيد، فامتثل بن دغر على مضض ليبدأ باسنيد في تفنيد حججه وبعثرتها بعمق الفكرة والواقع، واختتم قوله بكل شجاعة بتذكير الأخ بن دغر بالليلة التي أزعج فيها الشارع الوادع الذي يقطن فيه الباسنيد بدر بالحراسات والأطقم عندما جاءه ببيان الانفصال الذي أعلنه البيض فيما بعد في ليلة 21 مايو 1994م ليراجعه باسنيد من الناحية القانونية، وكأنه يقول لابن دغر إن التنقل في الزوايا السياسية حسب المصلحة لا يخول صاحبه أن يلقي العبر والعظات والدروس على الآخرين.

    رحم الله عائض وبدر باسنيد وكل أمواتنا أجمعين.

المزيد من مقالات (د. هشام السقاف)

Phone:+967-02-255170

صحيفة الأيام , الخليج الأمامي
كريتر/عدن , الجمهورية اليمنية

Email: [email protected]

ابق على اتصال