الأحد, 18 مايو 2025
87
عندما كنت أنزل إلى الشارع وأسمع صوت الطلاب وهم في الطابور الصباحي، كنت، رغم كل التحديات، أشعر أننا بخير، كان صوت النشيد الوطني يعلو فوق الهموم، وكان الأطفال يصطفون كأنهم مستقبل يمشي على الأرض.
أما اليوم.. في وطنٍ تمضي فيه الطفولة حفاة بين الركام، غابت المدرسة فغاب معها صوت الجرس الذي كان يوقظ الحلم كل صباح.
صار دفتر التلميذ شاهدًا على الغياب، لا على الدرس.
في قرى نائية، يتبادل الأطفال القصص بدلاً عن الكتب، ويتهجّون الحروف من ذاكرة أمهاتهم لا من ألواح الصف.
إن التعليم ليس مبنى من إسمنت، بل وعد بحياة أفضل.
لكن حين يُهدم الحلم ولا يُبنى البديل، يصبح الجهل ميراثًا، والفقر قدرًا، والأمل رفاهية.
ما ذنب طفلٍ لا يعرف أين يقع الصف الأول، لكنه يعرف تمامًا كيف يبدو وجه التعب؟
ما تقصير طالبٍ خرج من بيته بحقيبته المدرسية، لا يحمل سوى كُتبه وأحلامه الصغيرة، ثم تفاجأت أسرته بأنه لم يصل إلى مدرسته، بل اقتيد إلى الجبهات؟
أي ذنب ارتكبه طفلٌ اختلطت عليه الحروف بالرصاص، والنشيد الوطني بأصوات البنادق؟
هل كان عليه أن يتعلّم الحرب بدل الحساب، وأن يحفظ أسماء القتلى بدلًا عن أسماء الأنبياء؟
ذاك الطفل لم يتغيب عن المدرسة، المدرسة هي التي غابت عنه. غابت حين تُرك وحده فريسةً للجهل والتجنيد والتغرير، بلا صوت يردّه، ولا وطن يحميه.
هذا الوطن ..!!
الذي يموت شعبه بالقنابل والرصاص، منها ما تُزرع في الأرض، ومنها ما تُزرع في العقول. حين تتحوّل المناهج إلى أدوات تعبئة لا تعليم، وتُصبغ صفحات الكتب بلون الدم بدل الحبر، يصبح الطالب مشروع مقاتل لا مواطن.
في بعض الكتب، لا يُعلَّم الطفل كيف يحب وطنه، بل كيف يموت لأجله، قبل أن يفهم معنى الحياة فيه.
وحين يُلمّع "الجهاد" في عيون الصغار، ويُقدَّم القتال كطريق وحيد للكرامة، تُغتال الطفولة من على السبورة، وتُكتب الحرب في حصة التربية. هذا ليس تعليمًا، هذا تفخيخ منهجي للوعي، وتفريغ للتعليم من قيمته الإنسانية. وما يُبنى على الحقد، لا يصنع سلامًا، ولا مستقبلًا، بل يورّث قنابل موقوته من الألم، ستنفجر في أي حين..
لكن رغم كل هذا الظلام، جميعنا مدركين بأن التعليم قد يغيب مؤقتًا، لكنه لا يموت، وإذا اجتمع صوت الضمير مع إرادة الحياة مع روح التعايش والتسامح، سنعيد للمدارس أجراسها، وللكتب معناها، وللطفولة حقها في أن تكبر لا أن تُستَغل. غدًا، سيقف الأطفال في الطابور من جديد، لا ليُنشدوا للحرب، بل للحياة، وستردد الدنيا نشيدنا وتعيدها مرات ومرات.