في أعماق المشهد الجنوبي المثقل بالأسئلة والآلام، سمعتُ كلمات مواطن جنوبي تختزل، في بساطتها الصادقة، عمق المأساة ولب الحقيقة التي وصلنا إليها وهو يقول حرفيا:"قد نقبل الجوع مع استقلال دولة الجنوب. وقد نقبل بالفقر مع استقلال دولة الجنوب. وقد نقبل بالعذاب والحرمان مع استقلال دولة الجنوب. هذا أمر منطقي بالنسبة لكل أبناء الشعب الجنوبي. لكن اللا منطقي أن هناك من يريد من الشعب الجنوبي أن يقبل بالجوع في ظل دولة الوحدة مع الشمال، وأن يقبل بالفقر في ظل دولة الوحدة مع الشمال، ويقبل بالعذاب والحرمان في ظل دولة الوحدة مع الشمال."

هذه الكلمات ليست مجرد كلام عابر، بل هي صرخةٌ منطقية تُفضي إلى جوهر المعضلة الراهنة. فالتضحية من أجل استعادة دولة الجنوب، حتى لو استلزم الأمر سنواتٍ من شظف العيش وقساوة الظروف، هو خيارٌ مفهوم، بل ونبيل. فالنضال لأجل الكرامة والسيادة يحفزه أملٌ بمستقبلٍ أفضل، تملك فيه زمام أمرك، وتصنع فيه مصيرك ومستقبلك وتورث أبناءك وطناً ينتمون إليه بحق. هذا الألم، في سياقه الثوري، يكتسب معنىً، ويتحول إلى وقودٍ للصمود، وشهادةٍ على إرادة شعبٍ لا تلين.

لكن ما الذي يبرر أن يرزح شعبٌ تحت وطأة الجوع، ويغرق في الفقر، ويتجرع مرارة العذاب والحرمان، في ظل ما يسمى بدولة الوحدة"؟ هنا تكمن المفارقة اللا منطقية والعبثية. هل توحدنا نحن الجنوبيين مع الشمال لكي نزداد جوعًا وفقراً وحرماناً؟ هل سعينا للوحدة، وضحينا في سبيل تحقيقها، لكي يكون مصيرنا التشرذم والضعف بدلًا من الرخاء والرفاهية والقوة والاستقرار والأمان الذي كنا نعيش فيه، بكل نواقصه، قبل تجربة الوحدة؟

لنتأمل مشهد الجنوب قبل عام 1990: دولةٌ حديثة ناشئة، بكل ما فيها من تحديات وصعوبات أيديولوجية، لكنها كانت تتمتع بقدرٍ من الاستقرار الخدمي والأمني، وتملك مؤسساتٍ فاعلة، ونظاماً تعليمياً وصحيًّا مجانيًّا يُحفظ كرامة المواطن. كانت هناك شوارعٌ مضاءة، ومياهٌ تصل البيوت، ومدارسُ تُخرج الأجيال، وكهرباء لا تنقطع و وظائفُ متاحة، وأمانٌ محسوس في الشوارع حيث كانت الحياة، رغم بساطتها، تحمل قدرًا من الكرامة والعزة والاستقرار.

أما اليوم، فالمشهد مختلفٌ تمامًا. أنوارٌ خافتة بالكاد تُضيء الشوارع في ليالٍ يلفها الظلام الدامس. صرخاتٌ تتصاعد من المستشفيات التي تفتقر لأبسط الإمكانيات وبتكاليف باهظة. طوابيرٌ طويلة من العاطلين عن العمل، وجيوبٌ خاوية، وبطونٌ فارغة. في حين أصبحت قصة البحث عن مياه نظيفة أو كهرباء مستقرة كفاحاً يوميًا. بينما تلاشت المكتسبات التي كنا نملكها قبل الوحدة كأن لم تكن، وحل محلها دمارٌ شامل، وفوضى أمنية لم نكن نعرفها. حيث استشرى الفساد، وتفشت اللصوصية، وأصبح المواطن الجنوبي يعيش في حالةٍ من القلق الدائم على رزقه، وأمنه، ومستقبل أبنائه.

لماذا تتوحد الشعوب والبلدان أصلًا؟ هل تتوحد لتزداد فقرًا وضعفًا وتشرذمًا؟ أم أن الهدف من الوحدة، أيًا كانت طبيعتها، هو تحقيق الرخاء المشترك، وتعزيز القوة الاقتصادية والسياسية، وضمان الأمن والاستقرار لجميع أبنائها؟ إن المفهوم الأساسي للوحدة، في الفكر السياسي المعاصر وفي تاريخ الأمم، هو التضافر لتحقيق غاياتٍ عليا لا يمكن تحقيقها بشكل منفرد. فهي جسرٌ نحو الازدهار، وحصنٌ أمام التحديات، وعاملٌ لزيادة النفوذ و القدرة على المنافسة.

لكن الوحدة التي فرضت على الجنوب لم تجلب لنا سوى الويلات والمآسي. حيث ضاعفت آلامنا ومتاعبنا، وتسببت في تدمير ممنهج للبنى التحتية، ونهبٍ لثرواتنا، وتهميشٍ لكوادرنا. وقادتنا إلى ظروف اجتماعية واقتصادية وأمنية لم نكن نعرفها، و لم نكن نتخيل أننا سوف نصل إليها في يوم من الأيام. كيف يمكن لشعبٍ أن يتمسك بوحدة لم تزدْه إلا بؤسًا وفقرًا وتشرذمًا وضعفاً؟

إن الشفافية تقتضي القول، والمنطق يفرض الاعتراف، بأن هذه الوحدة، وبغض النظر عن النوايا التي قامت عليها، قد تحولت إلى عبءٍ ثقيل، ومشروعٍ فاشل، بل كارثةٍ وطنية على الجنوب. إن البحث عن حلٍ عادل ومنطقي لقضية الجنوب، ينطلق بالضرورة من هذه الحقيقة القاسية: فالشعب الذي رضي بالوحدة، ودفع ثمنها غاليًا، لم يجنِ منها سوى المآسي. وعليه، فإن حق هذا الشعب في تقرير مصيره، وبناء دولته المستقلة التي تحقق له الكرامة والأمن والرخاء، لم يعد مجرد مطلب سياسي، بل أصبح ضرورة وجودية، و منطقاً لا يمكن دحضه.