> مصطفى العثماني:
- إن انتصر الحوثيون فلن يكون لهم أفضل من القيام بدور "الزوج المحلل" في السياسة اليمنية
- لِمن تذهب الغلة في التلاقي بين طهران وصعدة؟
لكن الجديد في المشهد اليمني، هو الطابع الأيدولوجي للمعركة في شقها الذي تبع ثورات ما يسمى الربيع العربي في 2011 فلئن كانت حركة أنصار الله (الاسم الرسمي للحوثيين)، واضحة المعالم الحزبية فيما مضى، فإنها فيما بعد استحواذها على صنعاء، كشفت ما تبقى من الغطاء، عن أيدولوجيتها. ولم تمنح الباحثين حتى فرصة التكهن والتخمين، نحو خطاها التالية.
وإذا كانت المظاهرات في المدن العربية بعد سقوط زين العابدين في تونس 2011 استحوذ عليها غالبًا إسلاميون في نهاية المطاف، فإن التجربة اليمنية والبحرينية حملتا طابعًا إضافيًا.
ففي اليمن مثلًا، هنالك حزب الإصلاح وبعض المنتسبين للتيارات الاسلامية المحلية، ولكن من النسيج الجمعي اليمني، أضيف إليهم "الحوثيون" فيما بعد الذين وإن كانوا يمنيين خُلّصًا إلا أن تمايزهم عن النسيج الاجتماعي العام، حدث مبكرًا، فكان انضمامهم لما قيل إنه ثورة في اليمن ليس إلا من قبيل "الاستثمار في الأزمة" كغيرهم.
فالذي بدا، أن الخبراء ممن أعدوا الحوثيين مبكرًا لمعترك السيادة في اليمن، قدّروا مثل أصحاب مآرب كثر، أنّ الانتفاضات العربية، فرصة ذهبية لقطف ثمرات مؤجلة، وتعديل خرائط، وتحقيق أمانٍ شبه مستحيلة.
- التلاقي بين الإمامية والخمينية
الحكاية بدأت منذ عقود، عندما وصل آية الله علي الخميني إلى الحكم مسقطًا الشاه، وتبنى مشروعًا أيديولوجيًا بهدف التجييش السياسي، هو "ولاية الفقيه".
كانت أهم المضامين التي يستهدفها المشروع، بناء إمبراطورية إسلامية، ينبغي أن تتوسع ما استطاعت، عابرة الحدود السياسية والمذاهب التقليدية.
وحتى تكسب تلك الأيديولوجيا عصبية تتكئ عليها، اتخذت من التشيع السياسي وقودًا، وأعلنت في غير مناسبة أنّ حكم العالم الاسلامي أجمع، هدفها النهائي، وبخاصة رموز ذلك العالم، المقدسات في مكة والمدينة والقدس.
حتى إن مفكرين عربًا رووا عن أحد رجال تأسيس الخمينية قول أحدهم، إن أعراقًا عدة حكمت العالم الاسلامي قاطبة أو أكثره، عربية وتركية، فلماذا لا يأتي دور العرق الإيراني؟ وهكذا مضت المحاولات في كل اتجاه. كلما أتيح نشر نواة للتشيع السياسي، أو تنظيم فكري أو سياسي أو عسكري، فعلت ذلك إيران.
الجديد في المشهد اليمني، هو الطابع الأيديولوجي للمعركة في شقها الذي تبع ثورات ما يسمى الربيع العربي في 2011.
حاول الخبراء الإيرانيون لاسيما بعد حربهم الطاحنة مع العراق في الثمانين، أن يخترقوا أي نافذة يجدونها، لبناء أسس مشروعهم، متدثرين بذكائهم المعهود، وفنونهم في اللباقة والكياسة. مرة تحت عباءة التشيع. وثانية بذريعة الولاء لآل البيت، وثالثة لدعم المقاومة وتحرير المقدسات. وكان أول مشروع ينجح لهم على نحو مبهر، "حزب الله" في لبنان.
- هكذا ولدت الحوثية
في هذا السياق، ولدت الحوثية، وتيارات أخرى لم يكتب لها البروز بعد، وسيأتي يوم تقول فيه ها أنا ذا، إن بقيت الاستراتيجية الإيرانية ماضية في طريقها. فعلى سبيل الاستطراد، يقول صحافي عربي كبير، أجرى مقابلات مع كل الفاعلين الأكراد في سورية والعراق وتركيا، إن مسعود برزاني أسرّ إليه بأنه ليس مرتاحًا للإيرانيين لكن استراتيجيتهم وبعد نظرهم وصبرهم في تنفيذ مخططاتهم، لافتة. فيما بعد قال الرئيس الأميركي أوباما الشيء نفسه.
لماذا قصد الإيرانيون الحوثي تحديدًا، على غرار شخصيات ورموز شيعية في السعودية والبحرين والكويت، على رغم أنه ليس شيعيًا؟
قبل ذلك علينا أن نوجز كيف كان التلاقي، في التسعينات من القرن الماضي عندما استقطبت إيران على إثر انشغال بآثار حرب تحرير الكويت، عددًا من اليمنيين للدراسة في الحوزات هنالك، فكان بين أنجبهم السيد بدر الدين الحوثي، والد حسين (قتل 2004) وعبدالملك الحوثي القائد الحالي لحركة "أنصار الله" التي بدأت بجيب من صعدة، تطور حتى طمح إلى حكم اليمن أجمع أو جزء منه، على طريقة "إن لم تكن إبلًا فمعزى".
الحوثي، الذي خضع مع أبنائه لتأهيل هنالك واهتمام، عاد وتحرك في محيطه اليمني، وخاض أبناؤه الصراع بألوانه الدينية والسياسية والعسكرية، حتى انتهى بهم المطاف اليوم، إلى حركة لها مريدون، وجنود. ولا بد أن يكون بين ما أعد الإيرانيون الحوثي الأب والأبناء له، هو أن يكونوا رجالًا مؤثرين في بلدهم، قالت "البيان" الإماراتية في مارس 2017 بينما كان يعدون منذ ذلك الوقت العمل على إعادة دولتهم العريقة، المصنفة شيعية في المبدأ عند الإيرانيين، مهما كان بونها الفقهي مع مشيخة قم.
وإغراؤهم بذلك له أصل، فهم ينتمون إلى السادة الإمامية الذين حكم رجال منهم اليمن منذ قرون، قبل أن يطاح بآخرهم حميد الدين في 1962، ولجأ أغلب عائلته إلى السعودية، ولا يزالون فيها مواطنين.
كيف أعد الإيرانيون الحوثي؟
منذ عودة الأب من قم 1992 كان الحوثيون بشكل أو آخر، رجال إيران الأوفياء، وكان الإيرانيون المرشدين النبلاء، سمح نظام صالح بالتمكين لهم عبر نحو 24 مركزًا، وعدد من المؤسسات التعليمية والطبية والاجتماعية، بإدارة مباشرة من الإيرانيين أو بالشراكة مع حلفائهم الزيود، الذين وإن كانوا أقرب إلى "السنة" إلا أن خيوطاً تصلهم بالتشيع، تجعل خلق القواسم الأيدولوجية ممكنا معهم.
وخلال ذلك كانت الحروب تلو الأخرى، تصقل الحركة الحوثية، وتمنح الإيرانيين مجالًا لإخضاعهم أكثر للتدريب والتوجيه والانضباط، وفقًا للتقارير الاستخباراتية، تارة بأيدي عناصر من حزب الله وأخرى بأيدٍ إيرانية صرفة، حيثما أمكن ذلك في اليمن أو دول افريقية مجاورة اليمن أو في إيران. وهكذا حتى جاء أوان الزحف الكبير، الذي كانت أهم أهدافه البعيدة محاصرة السعودية، على رغم نكران عبدالملك الحوثي ذلك في إحدى تسجيلاته بعد منتصف 2017، زعم فيها أن معركة إيران والسعودية ليست في اليمن.
لكن تسجيلات حلفائه الإيرانيين من مثل مهدي طائب والمنشورة في مايو من العام نفسه، تقول شيئًا آخر. ناهيك عن مباهاة الجنرالات الشهيرة في الاستحواذ على "العواصم العربية الأربع".
لكن التقليد الأعمى لحزب الله خرج إلى السطح، بعدما شرع الحوثي في ترجمة الأدبيات السياسية في الخطابة والاعتصام والتهم لحسن نصر الله ببلادة، وصل حدّ "مسح العرق بالمنديل" الشهيرة أثناء الخطب المسجلة والمباشرة، وبقية تفاصيل "لغة الجسد". التقليد إياه حتى في استنساخ العدوات ضد الغرب وإسرائيل والسعودية، وبنكهة اليسار وهجاء الإمبريالية، لم يترك أي غافل ينسى لحظة، أن الحوثي الذي أمامه تلبسته أيدولوجيا إيرانية في نسختها اللبنانية، على نحو اتخذ أبعادًا كاريكاتورية أحيانًا. كمثل حادثة "المنديل" وخصلات الجبين. لولا أن إحدى الصورتين أصلية والأخرى مزيفة.
- من يحصد؟
السؤال الذي يطرح دومًا: لِمن تذهب الغلة في التلاقي بين طهران وصعدة؟ اليمن أم إيران؟ العرب أم الفرس؟ التيار الزيدي العريق، أم الاثنا عشري الطارئ؟
يتجه الحالمون بحصافةٍ تتنزل على الحوثيين إلى تفسير المشهد بتفاؤل لا يسنده غير التاريخ الإمامي في اليمن، والتحولات الموسمية بين الأحلاف القبائلية والأضداد في اليمن، للرهان على أن الكفة سترجح إن عاجلًا أم آجلًا للصالح اليمني العربي. فعدو الأمس في صنعاء يعود صديقًا اليوم، والعكس أيضًا قائم، ووجد هذا الفريق أمثلة أحدث لنظريته في تحالف الإخوة الأعداء الحوثي وصالح، وعودتهم مجددًا إلى الشقاق. وتقاطع الإصلاحيين والإخوان أيام الانتفاضة الأولى بالحوثي، وتضادهم الآن. إلى غير ذلك من أبجديات شعبٍ غدا أبعد ما يكون عن حكمته التي اتخذ لها مثلًا.
بيد أن هذا الرأي يدحضه باكرًا، اتخاذ الحوثيين الجارة السعودية عدوًا، وهي التي كانت تاريخيًا الذراع الذي ساند قضيتهم الأولى، وآوى مطارديهم، وأثبتت حسن نيتها على نحو نادرٍ حين سيطرت على معظم اليمن الحالي في حروب توحيدها (السعودية)، ولكنها أعادته لحكام صعدة من دون منة، كما يفاخر ويوثق العروبي السعودي الراحل عبد الله الطريقي. فهناك ألف سبيل لعودة الإمامية إلى موقعهم القديم، غير الطريق الذي ينتهي إلى "قم". وهذا ما جعل بعض المناصرين للحركة الحوثية حتى من آل حميد الدين، يجفلون من نسختهم الجديدة، التي تتنكر ليس لامتدادها الطبيعي فحسب ولكن أيضًا لحاضنتها الاستراتيجية الإقليمية والعربية.
وفي هذا السياق كان لافتًا أن ما أدركه تنظيم القاعدة الذي اشتهر ببعده عن الواقعية، عجز الحوثيون أبناء البلاد التفطن له. فبعد مقتل أسامة بن لادن في آبوت آباد الباكستانية مايو 2011 كان بين وثائقه المهمة التي أفرج عنها الأميركيون، قوله في الوثيقة المرقمة بـ16 للمخلص له في اليمن ناصر الوحيشي " لكم عبرة في إسقاط دولة طالبان (...)اليمن بالنسبة للأعداء كالذي هدده الخطر داخل بيته، فهي في قلب الخليج أكبر مخزون نفطي في العالم، فلا نرى أن نزج أنفسنا وأهلنا في اليمن في هذا الأمر في هذا الوقت. خلاصة القول: رغم ضعف الدولة وقابليتها للسقوط فإن الفرصة لإسقاطها وإقامة حكومة بديلة، متاحة لغيرنا لا لنا"!
ولا بد أن يكون الوحيشي أصيب بخيبة أمل كبيرة، فقول زعيمه الواقعي، كان على رسالة بعثها إليه، ربما كان ينتظر عليها وسامًا، عندما استأذنه في احتلال صنعاء قائلًا " إن كنت تريد صنعاء يومًا من الدهر فهو اليوم". ولئن كانت الرسالة حملت دلالة مبكرة على هشاشة الدولة اليمنية، فهي أيضًا تبرز إلى أي حد، كان الحوثي واهمًا في رهاناته الجديدة.
لهذا، يرى المراقبون أنّ تجربة الحوثيين في اليمن، في أحسن الظروف، محفوفة بالمكاره الذاتية، والمخاطر على مستوى الدولة، والمخاطر على مستوى الدولة، فحتى إن كتب لهم النجاح ولو جزئيًا، فلن يكون لهم أفضل من القيام بدور "الزوج المحلل" في السياسة اليمنية، وكلاء عن إيران، كيدًا بمنافسيها الإقليميين وخصومها السياسيين السعودية وبقية السنة العرب.
وهذا عوضًا عن أنه نهج لن تسمح دول التحالف العربي في اليمن وحلفاؤهم به، سيفضي إلى شقاق داخل اليمن، يجعل من استتباب الحكم فيه للحوثي محالًا. هذا لا يعني أن طهران ستتراجع إلا مرغمة، فالمهم أن تخدم استراتيجيتها، فالخراب عربي والقتلى كذلك من الطرفين. وهكذا نستبين أن الحلف الخميني والإمامي في اليمن، للخمينية غنمه وللحوثيين واليمن غرمه، بلغة الفقهاء التي يفهمها الزيديون جيدًا.