الأربعاء, 09 يوليو 2025
165
عندما وضع الروانديون أقدامهم على أول طريق النهوض في منتصف تسعينات القرن الماضي لم يكن ذلك بوحي من السماء ولا بإرادة مفروضة عليهم بل كان ذلك بإرادة وقيادة وطنية رواندية حرة ترى البعد الوطني قبل البعد القبلي أو العرقي.
وقد تزامنت أولى خطوات رواندا نحو النهوض مع آخر قطرة دم سالت في صراع مرير ذهب ضحيته مليون إنسان خلال مائة يوم فقط.
سيخلد تاريخ رواندا الزعيم الوطني بول كيجاما كواحد من عظماء أفريقيا وفي مصاف مواز للزعيم الوطني نلسون مانديلا الذي أسس للمصالحة الوطنية في جنوب أفريقيا على أنقاض الفصل العنصري الذي عصف بجنوب أفريقيا ردحا طويلا من الزمن.
قاد الزعيم الرواندي بول كيجاما النخبة الرواندية نحو مصالحة وطنية رواندية وصلت إلى الحواري، وقاد عدالة انتقالية وجبر الضرر ارتضاها الروانديون، وأسس كيجاما لديمقراطية متميزة تمنع الغلبة العددية للهوتو، قبيلته، الذين يشكلون 80 % من سكان رواندا بحيث لا يتعدى تمثيل أي قبيلة ال 50 % من الهيئات المنتخبة مركزيًّا ومحليًّا، وهذا تنازل كبير لكنه يخدم وطن لا قبيلة، وغني عن القول إن ديمقراطية الغلبة هي السبب الرئيس في فشل مشروع الوحدة اليمنية.
لا تفوتني الإشارة إلى أن الديمقراطية المقننة ذكرها صديقي العميد علي بن شنظور في كتيب عن تجربة رواندا كتبه من وحي زيارته لها ضمن وفد من فريق الحوار الوطني الجنوبي التابع للمجلس الانتقالي الجنوبي.
ولأن ما يهمنا كجنوبيين هو وطننا فأننا سنجلد ذواتنا ونغادر مربع المجاملة، فما عاشه جيلنا والأجيال التي سبقتنا كان عبارة عن مراحل صراع لم تبرز خلاله أي شخصية وطنية تحمل مشروعا وطنيا تم البناء عليه، فقد أصبحت ثقافة الصراع هي التي تتحكم في مصائرنا، فنتيجة لهذه الثقافة هرولنا للوحدة مع العربية اليمنية دون الاستقواء بمصالحة جنوبية.
حتى الرئيس علي ناصر الذي كان يراه البعض يحمل مشروعا كشف عن نفسه عندما قال بأنه كان ممن افشلوا دخول الجنوب ضمن مجلس التعاون الخليجي وبرره بعذر اقبح من ذنب حين قال (ونحن لن نكون مع الشمال ولا مع الجنوب) متناسيا أن كثيرًا من الرموز الوطنية الجنوبية عاشوا وماتوا في المنافي بفعل ثقافة الصراع والإقصاء التي أسسوا لها وأصبح الإنسان الجنوبي يدفع الثمن حتى اليوم، ومتجاهلًا أن الوطن يأتي قبل الأشخاص والجماعات، ولكم أن تتخيلوا كيف كان سيكون حال الجنوب لو انضم لمجلس التعاون الخليجي بدلا من الدخول في وحدة دمرت ما تبقى من الجنوب؟.
واقع الحال أن كل من تقاطروا على السلطة في الجنوب منذ الاستقلال ليسوا سوى أشخاص عابرون في تلافيف السنين، وكل ذكر لأي منهم يكون مقرون بمأساة أخذت معها خيرة شباب الجنوب، وكل ما ورّثوه لنا هي تباينات، صامتة أحيانا ودموية أحيانا أخرى، يستثمرها خصومنا من بين ظهرانينا ومن خارجنا.
مع ذلك فإن كل ما نملك هو أن نأمل أن تستلهم النخبة الجنوبية، في الانتقالي وخارجه، تجارب النجاح الأسطورية في جوارنا وفي بقاع تشبه حالنا قبل أن نفقد فرصة أخرى.