> رلى موفّق:

​يتحسَّب العالم بأجمعه لعودة دونالد ترامب إلى «البيت الأبيض». فالرئيس الآتي بتفويض شعبي أمريكي كبير، وبعد محاولات شتى من خصومه لإخراجه من المشهد السياسي انقلبت انتصاراً له غير مسبوق، يحمل الكثير من الوعود، ويرفع سقف التوقعات، ويطرح أجندة داخلية طموحة، ويتعهد بـ«عصر أمريكي ذهبي يبدأ الآن، وبأن تصبح أمريكا قريباً أعظم وأقوى وأكثر استثنائية من أي وقت مضى».

يأتي ترامب وكأنه يحمل عصا سحرية، ويُقدِّم عهده على أنه سيكون عهد السلام، وهو «صانع سلام»، مستشهداً بولايته الأولى التي لم تكن ولاية حروب.

يتكئ ترامب على القوة لصناعة السلام. تذهب الأنظار إلى الشرق الأوسط الذي يشهد تحولات جيو-سياسية كبرى في طور تأسيس «شرق أوسط جديد» ما زالت معالمه تتشكّل من دون الجزم بالوصول قريباً إلى نهائيات من شأنها أن تحكم صورة المنطقة لعقود مقبلة أو لقرن من الزمن.

ثمة قناعة لدى كثيرين أن طيف الرجل – قبل تنصيبه في 20 يناير 2025 – فَعلَ فعله في تنفيذ «صفقة غزة»، والتي كانت تراوح مكانها على أقله منذ 31 مايو 2024، حين طرح الرئيس الأمريكي آنذاك جو بايدن مقترحه لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى الذي تبنّاه مجلس الأمن. أرسل ترامب إلى المنطقة مبعوثه الخاص للشرق الأوسط ستيف وتكوف، فكان له ما أراد.

وأغلب الظن أنه كان يريد توظيف نجاحه في إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين في خطاب التنصيب، أكثر من جعل ذلك مؤشراً لرؤيته المستقبلية وللإرث الذي يريد أن يتركه كـ»صانع سلام»، والذي يُفترض أن يكون الشرق الأوسط جزءاً منه.

فما أن بدأ بتوقيع الأوامر التنفيذية التي وعد أن يقوم بها في أول يوم من توليه الحكم، ومنها ما يهدف إلى إلغاء قرارات لسلفه، حتى ألغى أمراً تنفيذياً لبايدن كان قد أصدره في فبراير الماضي 2024 يتعلق بفرض عقوبات على مجموعات استيطانية إسرائيلية يمينية متطرفة وأفراد متهمين بالتورط في أعمال عنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية.

ترافق قرار ترامب مع هجوم جديد لمستوطنين في قريتين في الضفة، وتنفيذ الجيش الإسرائيلي لعملية «السور الحديدي» في مدينة جنين ومخيمها للقضاء، بحسب إسرائيل، على خلايا تابعة لـ»حركة حماس» وما يُعرف بـ«كتيبة جنين».
  • المعركة إلى ساحة الضفة
تحمل «عملية السور الحديدي» مخاوف فعلية من ألاّ تكون عسكرية استباقية بقدر ما هي نقل المعركة إلى ساحة الضفة الغربية وذريعة لعمليات تهجير جديدة ستترك تداعياتها على مستقبل الحلول الممكنة للقضية الفلسطينية برمتها، وليس فقط على غزة والاتفاق الراهن الذي بدا ترامب نفسه غير واثق من مآلات مرحلته الثانية بعد أسابيع ستة على بدئه في 19 يناير الجاري، ولا سيما أن المراقبين يرونه اتفاقاً هشاً، لا يحتوي على ضمانات لتثبيته والبناء سياسياً على نتائجه، ذلك أن الطاقم اليميني المتشدِّد الحاكم في إسرائيل لن يكون في وارد الانخراط في «اليوم التالي» لغزة، وفق رؤية عربية – دولية بأن إنهاء الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي لن يكون إلا على أساس حل سياسي يُؤمِّن حقوق الفلسطينيين ويبنى على «حل الدولتين».

في الأساس، لم يكن «حل الدولتين» جزءاً أساسياً من توجهات ترامب في ولايته الأولى.

ولا يبدو جلياً كيف سيسير في ولايته الثانية ولا كيف سيكون مستقبل الفلسطينيين، لكن الفريق المحيط به هو من الصقور الذين يضعون مصالح «إسرائيل أولاً». بالطبع ما يهم ترامب هو أن يُكمل المسار الذي بدأه في ما يُعرف بـ«صفقة القرن»، أو «الاتفاقيات الإبراهيمية»، والتوصل من خلالها إلى تحقيق التطبيع السعودي – الإسرائيلي، والذي سيكون نقطة تحوُّل فارقة بقبول إسرائيل في المحيطين العربي والإسلامي، وبأن تلعب دوراً طبيعياً في المنطقة على مختلف المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية. لكن الوصول إلى هذا الهدف تبقى أمامه عقبات أكثر تعقيداً، بعد «طوفان الأقصى»، بحيث إن المملكة العربية السعودية أبدت تصميماً أكبر على ضرورة إنشاء دولة فلسطينية، وهي قادت منذ السابع من أكتوبر 2023 حراكاً دبلوماسياً، وأنشأت تحالفاً عالمياً خلف «حل الدولتين»، وسيكون من الصعب على الرئيس الطامح إلى «جائزة نوبل للسلام» أن يقفز فوق تلك العقبات من دون أن يدفع في اتجاه حل مقبول لإنهاء هذا الصراع المزمن، بما يفتح طريق «التطبيع الكبير». وسيبقى السؤال: هل يمكن لبنيامين نتنياهو وحلفائه من اليمين المتطرف أن يتحولوا من مبدأ الإجهاز على القضية الفلسطينية والفلسطينيين إلى مبدأ حل تلك القضية بطريقة عادلة ولو بالحد الأدنى؟
  • اتفاق الآلية
ستتوالى الأسئلة حول كيفية تعامل ترامب مع التحديات الماثلة في الشرق الأوسط. صحيح أن المنطقة دخلت مساراً جديداً مع تراجع النفوذ الإيراني فيه من بوابة هزيمة إسرائيل لـ»حزب الله» في لبنان، وسقوط نظام بشار الأسد في سوريا، والذي نتج عنه خروج إيران وميليشياتها من هذا البلد، وتراجع الحضور الروسي فيه، فضلاً عن تلمّس العراق المخاطر المحدقة بالنظام الحاكم في حال بقاء الميليشيات العراقية التي تدين بالولاء لإيران مهيمنة على المشهد في «بلاد الرافدين»، وبدء تبدُّل حال «جماعة الحوثي» في اليمن، ولا سيما مع إعادة تصنيف ترامب للحوثيين كمنظمة إرهابية أجنبية.

لا شك أن الدور الإقليمي لـ»حزب الله» من خلال لبنان قد مُني بضربة كبيرة. يسود اعتقاد أن التنفيذ الصارم للقرار 1701 مع وجود لجنة خماسية أمنية برئاسة أمريكا لتنفيذ «اتفاق الآلية» سيُصفِّر الجبهة اللبنانية – الإسرائيلية. «اتفاق الآلية»، الذي أفضى إلى وقف إطلاق النار لستين يوماً بات في حكم المنتهي (26 يناير)، شهد طلباً أمريكياً بتمديد فترة وقف إطلاق النار الجاري، في ظل إعلان مكتب نتنياهو أن «انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان سيستغرق أكثر من 60 يوماً، لأن اتفاق وقف إطلاق النار لم يُطبَّق بالكامل من قبل لبنان، وسيكون الانسحاب مرحليا وبالتنسيق مع واشنطن».

ما فُهم أن الجيش الإسرائيلي سيُبقي على تواجده في مواقع استراتيجية في مناطق من القطاعين الشرقي والأوسط، على أقله لأسبوعين في المرحلة الراهنة. ليس القلق من أن يضغط «حزب الله» بالعمليات العسكرية، فهو طالب الدولة بالتحرُّك، لكن الخوف من استخدامه «سلاح الأهالي» عبر دفعهم للعودة إلى البلدات التي كان يُفترض أن تُنجز إسرائيل الانسحاب منها مع انتهاء مهلة الـ60 يوماً، ما قد يؤدي إلى تصعيد غير محسوب.

صحيح أن «محور إيران» أصابته ضربات ارتجاجية قوية في لبنان، لكن انهيار نظام الأسد أسقطه بضربة قاضية في سوريا مع قطعه طريق طهران – بيروت عبر دمشق. ورغم التحولات الكبرى في سوريا، التي أتت بالإدارة السورية الجديدة بزعامة «هيئة تحرير الشام» – جبهة النصرة سابقاً «أبو محمد الجولاني» بنسخته الماضية وأحمد الشرع بنسخته الحاضرة، فإن كيفية تعامل إدارة ترامب مع «سوريا الجديدة» سيحتاج وقتاً للتبلور.

وإن كان ترامب اعتبر أن ما جرى في سوريا لا يهمه، لكن سيكون عليه الالتفات إلى هذا الملف، إذا أراد مستقبلاً أن يُعيد ترتيب الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة ولا سيما في العراق وسوريا. كما عليه ترتيب وضع حلفائه من الأكراد في شرق سوريا، ومستقبل العلاقة مع تركيا التي شكَّلت الغطاء لانقلاب المشهد في سوريا، وهي تريد الانتهاء من مشكلة «حزب العمال الكردستاني»، حيث تَعتبِر «قوات سوريا الديمقراطية» جزءاً منه.

كان لافتاً قول الشرع في برقية التهنئة لترامب إنه «على ثقة من أنه الزعيم الذي سيجلب السلام إلى الشرق الأوسط». وفي رأي المتابعين أن مستقبل سوريا بعد بشار الأسد يرتبط بشكل كبير بالسياسات الأمريكية. وبالتالي أمام الشرع تحديات كبيرة، أبرزها نزع سلاح الفصائل المسلحة ودمج القوات الكردية في الجيش السوري الجديد. ثمة مَن يعتقد أن نجاح الشرع يعتمد جزئيًا على قرارات ترامب بشأن الوجود العسكري الأمريكي في هذا البلد.

ويبقى العنوان الأكبر في المنطقة هو إيران، وما إذا كان يمكن التنبؤ بخطوات ترامب باتجاهها وحيال الاتفاق النووي الإيراني الذي سبق أن انسحب منه رسمياً في مايو 2018، والذي أحدث جدلاً حول ما إذا كان انسحابه شكَّل خطأ فتح الباب واسعاً أمام إيران لزيادة تخصيب اليورانيوم والاقتراب من أن تكون دولة على «العتبة النووية».

مهما كان الأمر، فإن الاتفاق النووي بالصيغة التي كان عليها تنتهي مفاعليه هذه السنة، وستكون هناك حاجة إلى معالجة هذا الملف الذي تتضارب عملياً المعلومات حوله، إنما الأكيد أن أحداً من الغرب وأمريكا ومعه بنيامين نتنياهو لا يريد أن يرى إيران نووية ولا يريدها أن تمضي قدماً بصواريخها الباليستية التي أضحت خطراً استراتيجياً على أوروبا أيضاً.

في واقع الأمر، تُثير ولاية ترامب الثانية مخاوف طهران بسبب احتمال تصعيد سياسة «الضغط الأقصى»، ومحاولته استخدام جنوح إسرائيل نحو توجيه ضربات عسكرية لإيران وبرنامجها النووي لتطويع قادة «الجمهورية الإسلامية» والذهاب بهم إلى التفاوض للوصول إلى صفقة شاملة في نهاية المطاف.

فطموح ترامب بأن يكون رجل السلام في الشرق الأوسط هو طموح كبير، والسنوات الأربع المقبلة ستكون مفتوحة على الكثير من المفاجآت والتغييرات الكبرى. فالعالم – حلفاء وخصوم – يتحضَّرون للآتي الجديد-القديم إلى «البيت الأبيض».
عن "القدس العربي"