> «الأيام» فاروق لقمان:

نشبت الحرب العالمية الأولى عام 1914 بين بريطانيا وفرنسا من جهة وألمانيا من جهة أخرى انتصرت فيها ألمانيا في بداية الأمر خصوصاً وأن تركيا العثمانية انضمت إليها لحماية إمبراطوريتها التي كانت مركزاً لآخر خلافة إسلامية. وامتد الاحتلال التركي إلى أنحاء عديدة من الشرق الأوسط وأوروبا ووصل إلى معظم أنحاء اليمن المتوكلية كما كانت تسمى آنذاك.

ولما كانت بريطانيا تحتل عدن والشيخ عثمان وتفرض نفوذها على ما كانت تسميها المحميات كان من البديهي أن يحاول القائد التركي المحنك سعيد باشا احتلالها وضمها لقطع الطريق البحرية على الأسطول البريطاني والاستيلاء على البواخر التجارية في الشيخ سعيد عند باب المندب. وبالتالي السيطرة على كل البحر الأحمر وبحر العرب إذا استطاع، مع أن تركيا عام 1914 كانت مترنحة ضعيفة سماها المراقبون «رجل أوروبا المريض»، لأنها كانت قد وصلت إلى حد الإنهاك بسبب التمدد وتناقص الدخل وزيادة الإنفاق وارتفاع الضرائب على الناس. ومع ذلك كان سعيد باشا ينوي اقتحام لحج سلطنة العبادل الكبيرة الزاهرة كمحطة ضرورية في طريقه إلى عدن. لذلك سمى أهل الجنوب تلك الفترة «حرب سعيد باشا» كما سمعتها وقرأت عنها من الآباء والأجداد.

وقد أشار والدي محمد علي لقمان - رحمه الله - في مذكراته التي عثرت على بعضها إلى تلك الحرب. وفي إحدى الحلقات قال إن سعيد باشا جهز جيشاً كبيراً من قواعده الكبرى في الشمال وتقدم به إلى المحميات الغربية. وخلال ذلك الغزو نُهبت الشيخ عثمان على قلة إمكانياتها لأن البريطانيين لم يجازفوا بالدفاع عنها ضد جيش تركي كبير كان قد احتل لحج الأكبر حجماً.

لحج في بداية القرن العشرين
لحج في بداية القرن العشرين
يقول الوالد: «استعدت لحج لصد الهجوم التركي وتولى القيادة العامة الأمير محسن فضل وجند أكثر من 3000 رجل ويُقال أكثر من قبائل العبادل - أهل البان والعزيبة وآل سلام وبعض المتطوعين من يافع والحواشب وأخرج الجيش إلى الطبان، وزوده بالمؤن والذخائر وساعد والي عدن، ورئيس قواتها المسلحة (الجنرال شو) في إعداد الجيش إلا أن الحكومة البريطانية لم تضع القوة العسكرية العبدلية تحت قيادة جنرال إنجليزي أو قواد عسكريين من ذوي الخبرة ولذلك تولى قيادة الجيش العبدلي الأمير محمد سعد وعقال العزيبة وأهل البان..

«ونزل سعيد باشا، تسبقه دعاية طويلة عريضة تكاد تبلغ حد الأساطير، أنه القائد الملهم الذي لا تقف في وجهه الحصون، وأنه الولي الصالح الذي يكاد أن يعلم الغيب وأنه الغازي الفاتح من آل عثمان.«وكان أن استسلم الأمير نصر بن شايف سيف أمير الضالع والسلطان علي مانع الحوشبى والشيخ عبدالحميد العلوي وأهل قطيب والجعود (ردفان) إذ كان يحمل براءة الجهاد من شيخ الإسلام في الأستانة.

«ولم تمض سوى بضعة أيام على احتلال الضالع حتى كانت مدافع سعيد باشا تدك متاريس العبادل في الطبان وقاوم الجيش العبدلي بضعة أيام ولكن المواصلات كانت ضعيفة فلم تصل إليهم المؤن والذخائر وحتى الماء في الحوطة, والمحطة الثانية نوبة دكيم، والمنطقة كلها كانت جافة قليلة الماء. ووجد القائد العبدلي مجازفة في محاولة مبارزة الجيش التركي في مواقع سافرة والأتراك أكثر حنكة وقدرة على الصراع وكان كل رجال القبائل موالين لسعيد باشا يأتونه بالميرة والذخيرة وعلاوة على ذلك فقد كانت أرض الطبان جبلية لم يتعود عليها العبادل وهم يعيشون في أرض منبسطة عند مزارعهم بينما كان الجيش التركي متعودا على القتال في جبال اليمن وغيرها وقد اشتهر الجندي التركي بشجاعته. فانسحب العبادل إلى الحوطة.

«وكان الكولونيل جيكب معاون والي عدن مقيماً في لحج في حيط الدعارع فوق الوادي بقرب سفيان ولما بلغه خبر انسحاب الجيش العبدلي غادر لحج ميمماً عدن.

«ولسوء الحظ حصلت فوضى رديئة عند انسحاب القوات العسكرية العبدلية من الطبان وصاح الصائح أن الجيش التركي انتصر وأنه قادم بقضه وقضيضه إلى الحوطة فهب الناس للفرار واللجوء إلى عدن وحملوا حاجاتهم على ظهورهم وعلى ظهور الجمال والحمير وبعض السيارات التي نقلت عليها عائلات الأمراء وامتلأت الصحراء بهم من الحوطة إلى الشيخ عثمان وخرج عدد من العدنيين لإسعاف اللحجيين من بينهم دائل أحمد سلطان الذي وصل إلى بئر ناصر وكان أصدقاؤه أمراء آل فضل محسن وخرج أبي وأنا معه إلى دار الأمير ولكننا وجدنا الفوضى سائدة والجنرال شو وفرقة من رجال البحرية مرابطين في هذا المركز.

«وكان أول فوج من اللاجئين قد وصل إلى الشيخ عثمان وعدن. وقد بقي أهالي لحج الطبقة المتوسطة والفقراء حيث هم ومعهم وكلاء الأمراء على أراضيهم وأطيانهم.

مدينة الشيخ عثمان في بداية القرن العشرين
مدينة الشيخ عثمان في بداية القرن العشرين
«وفي تلك الليلة وصل الجيش التركي إلى القريشي وبلغ مسامعنا في الشيخ عثمان هزيم المدافع وصعدت أنا إلى عند ساعة قسم الشيخ عثمان وشاهدت الحرائق التي بلغت عنان السماء من (الشون) وأكوام القصب اليابس والأكواخ وقضيت الليلة على سرير في الشارع بجوار بيت سعيد حسن زمريط، جد أخي محمود لقمان الذي لم يكن قد وُلد آنذاك وعند الصباح رأيت مدينة الشيخ عثمان تموج بالناس وأدركت أن الحالة متوترة بعد أن أصيب السلطان علي بن أحمد بن علي سلطان لحج برصاصة في فخذه وهو خارج على فرسه من الحوطة في المساء. أصابه الجنود الهنود بعد اقتراب الأتراك من المدينة وظنوه ضابطاً تركياً ولما أدركوا غلطهم أسعفوه ونقلوه للعلاج في بيت محمد عبدالله حسن علي في عدن وحافظ الجيش الإنجليزي على الفارين بأرواحهم من لحج بين الحوطة والشيخ عثمان وأخيراً انسحبت القوة العسكرية التي كانت مرابطة في الحوطة عند بيت العالم (قرب قصر الروضة الآن) وانسحب والي عدن من دار الأمير وعلم الناس بتقدم الجيش التركي نحو دار الأمير فأصابهم الفزع وأخذوا يغادرون الشيخ عثمان.

«ولم ألتق بأبي فذهبت أسأل عليه عدداً من أصحابه وسألت رجال الأمن في الشيخ عثمان وكنت أعرف منهم خميس ناصر وعلي حسين المرقشي وناصر علي دياني وعلي هادي وقاضي الشيخ عثمان عمر شرف، ولما جن الليل رأيت الناس يغادرون الشيخ عثمان بعد أن أمرهم البوليس بإخلاء المدينة، هكذا أشيع، وبدأ النهب في أطرافها ووجدت سيارة واقفة في السوق تنقل نساءً وأطفالاً وسألت السائق فقال لي إن أبي كان يسأل عني وقيل له إنني ذهبت إلى عدن فصعدت على السيارة وفي صباح اليوم الثاني نُهبت الشيخ عثمان وبعثرت أوراق البلدية وسجلاتها وضاعت (مخالق) - شهادات الميلاد - أكثر الأهالي وأموالهم وفاز من نجا منهم بحياته وأطفاله ونسائه».