> «الأيام» علوي بن سميط:

مسجد الاستقلال الماليزي
مسجد الاستقلال الماليزي
لم أكن وحدي أتساءل كيف وصلت ماليزيا إلى مستوى نهضوي واقتصاد قوي، بل الكل سواء كان متابعاً أم مواطنا عاديا.. أهو الدور الصيني الماليزي الذي قدم من زمان ممارساً للتجارة أم المسلمون أهل الأرض أم الذين تعود جذورهم للعرق العربي أم الهنود الماليزيون؟ وتأتي الاستنتاجات والتحليلات بأن لا هؤلاء ولا أولئك بل إن الاستقرار السياسي وضمانة حق الأعراق والأديان وفرا مناخات اقتصادية أوصلت تلك البلد إلى مستوى نهوض متسارع من بين دول جنوب شرق آسيا، وأضحت النقلة السريعة من الزراعة إلى الإنتاج الإلكتروني الذي هو من أهم الصادرات التجارية إلى مختلف دول العالم، وقياساً بالدول المحيطة فإن ماليزيا متقدمة من حيث انخفاض البطالة فيها وهو مؤشر لتنامي الاقتصاد، ثم إن التفكير فالتنفيذ الفعلي للخطط والاستراتيجيات الاقتصادية هو الذي مكن هذه الدولة من تحقيق النجاحات على الأرض، والنظر من ساسة ماليزيا بعمق لكل القضايا عامل آخر للنجاح، فمثلاً الأحداث التي ذكرناها وأدت إلى العنف العرقي نهاية الستينات لم يتم إخمادها بل التفكير في كيفية عدم عودتها، وكتاب رئيس الوزراء الأسبق مهاتير محمد بعنوان (خطة جديدة لآسيا) - الذي نقله للعربية الكاتب الصحفي فاروق لقمان - يتضمن في بعض سطوره إشارة مهاتير لذلك وإنشاء مجلس وطني لدراسة أسباب هذه المشكلة «إذا لم يكن لدينا ماليزيا مستقرة عرقيا تسودها المساواة في أوقات الأزمات الاقتصادية فإن الوضع كان سيتدهور بسرعة».

الإسلام الحضاري

عودة للسياحة التي تمثل مؤشر استقرار لأي بلد فإن الإحصائيات الصادرة عن هيئة السياحة الماليزية توضح أنه فقط خلال يونيو الماضي وفد أكثر من مليون سائح، جاءت المراتب: الأولى من دولة بولندا والثانية من فنلندا، ويعني ذلك أن الأوربيين من البلدان الباردة فضلوا زيارة ماليزيا المتميزة بموقعها الاستوائي بل معظمهم يصفها بأنها بلاد الفصول الأربعة، ومن المليون أيضاً يظهر أن فيتناميين ومن سلطنة بروناي قدموا بأعداد كبيرة وهذا مؤشر أن بلدان آسيوية مجاورة وجد سياحها ضالتهم في جارتهم، ويأتي الأتراك في مرتبة متقدمة من الواصلين إلى هذه البلاد، هذا الرقم فقط من البلدان التي تقدم ذكرها، أما إجمالي السياح خلال ستة أشهر فقط من العام الجاري يناير - يونيو 2007م من مختلف العالم فوصل إلى (10) ملايين سائح، وحققت ماليزيا من قطاع السياحة العام الماضي 2006م (26.02 مليار ريجنت) أي ما يعادل 17 مليار دولار أمريكي، وليس الزوار فقط انفقوا مبالغ جراء سياحتهم في ماليزيا بل إن الاستثمار من مختلف البلدان يتدفق إثر الامتيازات والتسهيلات، ومن العرب فإن آخر مشروع استثماري حتى الآن هو شراء رجل ثري ومستثمر عربي معروف منتجعا سياحيا في ماليزيا بكلفة (114) مليون دولار أمريكي.

مبنى تاريخي في كوالالمبور
مبنى تاريخي في كوالالمبور
إثر تسلم عبدالله أحمد بدوي رئاسة الحكومة خلفاً لمهاتير محمد، مضى على طريق الاستراتيجية الشهيرة (ماليزيا 2020) وأضاف خطة جديدة كبرنامج له وللشعب الماليزي بمسمى (الإسلام الحضاري) الذي لم يثر حتى الآن توجساً لدى معتنقي الديانات الأخرى، إذ تقدم بدوي شارحاً برنامجه للاعراق والديانات الأخرى محاوراً ومفصلاً الأفكار الواردة في استراتيجيته، ولأنه من الغالبية الدينية في ماليزيا أي المسلمين إلا أنه بتقديري يعي تماماً أنه رئيس وزراء للكل وإن كان منهم أقليات أخرى.. هذا البرنامج يعطي صورة واقعية وفعلية للإسلام كدين يفكر في مستقبل من ينتمون إليه أو حتى الذين يحيطون به، وأن الإسلام معاملة وتعامل وقبول بالآخر إضافة إلى أنه برنامج متقيد بالتعاليم الإسلامية.. ولفهم صيغة هذه الاستراتيجية التي وضعت قبل أكثر من عامين فقد وزعت كتيبات مجانية على الشعب الماليزي باسم دليل الإسلام الحضاري تفسر مضامينه، ولم يكن الداخل فقط مستوعباً له بل حتى الخارج تقبل هذه الفكرة التي جسدت الإسلام قولاً وفعلاً، فالعصر الذي نعيشه وتطوراته والتغييرات التي قد تنشأ من هذه التغييرات لها حلول وتعامل في ديننا وهو الأمر المهم الذي توضحه هذه الوثيقة أو البرنامج، الذي حصلت على نسخة منه ولكن للأسف باللغة الماليزية، واستطعت في وقت قصير أن أفهم من ماليزيين يتحدثون العربية بطلاقة (باحثين ومهتمين) صورة لعناوين رئيسية في هذا البرنامج.

من مشاهدات تعايش الأديان والاختلاط في الحياة اليومية - التي أوردنا في الحلقات السابقة ملامح منها مع الاحتفاظ بهوية التنوع الثقافي الذي لا ينفي الآخر- أنك إذا ذهبت مثلاً للحي الصيني أو السوق الصيني الذي يتخصص في بيع منتوجات ذات نكهة صينية أو تلحظ بداخل السوق محلات فإن العين ترى أن لا فرق بين المتعاطين في تسويق المنتجات، فتجد امرأة مسلمة أو أكثر تعمل داخل هذا المكان الذي يوحي اسمه وكأنه مخصص فقط لمن ينتمي لهذه الديانة فقط، وهذا غير صحيح، كما أنه في المحلات العامة والأسواق التجارية الكبيرة - على الأغلب كما رأيت - أن النساء الموظفات والعاملات فيه مظهرهن يعرف أنهن من أتباع هذه الديانة أو تلك، ولا يعني عمل النساء المسلمات دخولهن سوق العمل الذي به الأغذية أو البضائع المحرمة إسلامياً، بل تجد موظفا أو بائعة ليسا من المسلمين إذا عرف أنك مسلم يرشدك بأن هذا الذي تشتريه حلال وذاك حرام، ولعل هذه التفصيلات والجزئيات التي أذكرها تؤكد تماسك هذا الشعب الذي ينظر للإسلام ومواطنيه من المسلمين باحترام ولأفكارهم التي تجتهد لصالح البلد ككل .. وينتظر الماليزيون عموماً خلال شهر رمضان المبارك حدثا يفتخرون به قبل حصوله، إذ من المتوقع أن يصعد للفضاء مواطن مسلم في 10 أكتوبر القادم كما هو مخطط على مركبة روسية (سيوز)، رائد الفضاء الماليزي المسلم سوف يمكث أكثر من 10 أيام في الفضاء الخارجي، ويأتي هذا ضمن برامج فضائية واتفاقات علمية مع عدد من البلدان أبرمتها ماليزيا، وهذا الرائد اجتاز تدريبات علمية واختير من بلاده ووكالة الفضاء على معايير معروفة من ضمن العشرات الذين تقدموا من مواطنيه لاختبارات هذه المهمة.. والفضاء دخلته ماليزيا بعد أن ورد في برامجها الحكومية الطموحة، وسبق أن أطلقوا قمراً صناعياً يخدم عدة أغراض وتستفيد منه دول آسيوية ويتعاملون من اليوم لإطلاق رائد فضاء ماليزي للوصول للقمر، والبرنامج ينفذ في خطواته الأولى وفعلياً سيكون بعد أكثر من خمس سنوات قادمة، الحدث القادم خلال الأيام القادمة ربما ليس الأول أن يخترق مسلم الفضاء الخارجي، فالمسلمون في العام يتذكرون في أواخر الثمانينات رائد الفضاء المسلم سمو الأمير سلطان بن سلمان، والجديد في الفضائي الماليزي المسلم أنه سيكون أول رائد فضاء يصوم رمضان خارج كوكب الأرض، وهذا ما يفتخر به الماليزيون حتى من غير المسلمين.

رئيس الوزراء الماليزي عبدالله بدوي في رباط تريم وإلى اليمين يظهر العلامة سالم الشاطري عميد الرباط
رئيس الوزراء الماليزي عبدالله بدوي في رباط تريم وإلى اليمين يظهر العلامة سالم الشاطري عميد الرباط
رئيس الوزراء عبدالله أحمد بدوي الذي زار اليمن في مارس 2007م وتوقف طويلاً وبإعجاب أمام مخطوطة عمرها قرون في مكتبة الأحقاف للمخطوطات بتريم حضرموت (قانون الطب) وقبل أن يزور دار المصطفى للدراسات الإسلامية الذي يدرس فيه أكثر من (110) طلاب ماليزيين وتحدث معهم مطالبا إياهم بربط العلوم الشرعية بعلوم العصر، انبهر بكتاب ابن سينا المخطوط في حضرموت، وهو دليل على عمق نظرة هذا الرجل القيادي لنهضة المسلمين واستلهام أفكارها وتطبيقها في هذا العصر وطرحها في برنامجه، لذلك يمكن وصفه بالسياسي الماليزي المفكر الإسلامي فمما قاله قبل ستة أشهر في حضرموت أمام الطلبة الماليزيين «إن المعرفة لها أهمية كبيرة في تنفيذ أغلب استراتيجياتنا وحول هذا الموضوع تحدثت في كثير من الدول الإسلامية وكانت الاستجابات جيدة وإن شاء الله ستصبح الدول الإسلامية قوية بالأيمان القوي لدى المسلمين». (راجع «الأيام» عدد 2007/3/3م) وبهذا فإنه يؤكد أن تجربتهم قامت على أساس المعرفة، وهو لا يقول كلاماً تنظيرياً إنما يشهد له النجاح الذي حقق في ماليزيا حيث نفذت استراتيجياتهم لأنها خططت على الأساس العلمي المعرفي ويمكن للدول أن تأخذ بها وهو ما دعا إليه في حديثه الذي تقدم.

أما برنامج الإسلام الحضاري فإنه يرد على بعض الآراء التي تشكك ولو بنسبة ضئيلة فيه ومدة نجاحه في مجتمع متعدد أو عالمياً، يقول عنه في حديث لوكالة (برناما) الماليزية: “لا يتناقض - أي البرنامج- مع تعدد الأعراق والديانات” وكثيراً ما يردد بدوي رئيس الحكومة في محافل رسمية ولقاءات عامة «إنني رئيس وزراء لكل الماليزيين». لهذا هم ناجحون لأنهم هكذا يفكرون. في عدد قادم نستكمل جولة «الأيام» في مملكة الأحلام.