لا يمكن أن نتجاوز المنطق، حتى وإن قيل إن السياسة هي فن الممكن، فالسياسة قد تحتمل جمع المتناقضات من خلال البحث عن العوامل المشتركة للنقضاء أو المتصارعين، وجعل كل طرف يشعر بأنه قد حصل على نصيبه من الكعكة (شريطة كفاءة ونزاهة الوسيط العامل بينهما). لكن ذلك مشروط بالضرورة بتشابه أو واحدية المآلات النهائية التي يسعى إليها كلا الطرفين وهي هنا استعادة الدولة الغائبة شكلا ومضمونا. وهو ما لا يتوفر في الحالة اليمنية المتأزمة. فبرغم تشابه طفيف في طبيعة المنصتين، اللتين يقفا عليهما الطرفان المتضادان والمختصمان، الذين يفترض أن تكون العلاقة بينهما تحالفية وتكاملية، وحيث يفترض أن يجمعهما عدائهما للخصم الأكبر، الذي اختطف الدولة ومقدراتها وسيطر على كل المحافظات الشمالية ونعني بذلك الحركة الحوثية وحلفائها من مكونات سياسية وقبلية، إلا أن الواقع يقول بعكس ذلك نتيجة اختلافهما في الهدف. وحين تختلف الأهداف تختلف النوايا، وحين تختلف النوايا يصبح من غير الممكن الاتفاق، وإن حدث وإن تم الاتفاق فإن صيرورة فشل تنفيذه تصبح حتمية ولا مفر منها. وإذا ما أضفنا إلى كل ذلك الحسابات المتعلقة بالوسيط وهي هنا من نوع خاص تحملها نصوص ومفردات الاتفاق نفسه، فحينذاك يصبح تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في حكم المستحيل.

لذلك نقول إن فشل حوارات جدة ومن بعدها الرياض.. نتيجة فرضها منطق الأشياء، فنظرية المتضادات ورغم عمرها الطويل وما منيت به من انتكاسات خلال القرون الوسطى وما بعد حتى نهاية القرن العشرين إلا أن العلم الحديث يعيد لها الاعتبار فكل شيء له ضده.. وهذه الأضداد تبحر في لجة صراعها الأبدي.. يقودها واحد من أهم القوانين الفلسفية التي تسير الكون بما فيه، قانون وحدة وصراع الأضداد.

ببساطة متناهية حدوث أمر غير فشل حوارات الرياض، كان من وجهة نظري المتواضعة بمثابة خروج عن ناموس الطبيعة وقوانينها، ذلك لأننا ملزمون ببساطة بتنفيذ قانون فلسفي آخر، يحدد قابلية وصلاحية قانون صراع الأضداد. نقول يا سادة علينا أن نطبق القانون الفلسفي الكوني الثاني؛ قانون الانتقاء الطبيعي الذي ينص على البقاء للأفضل، للأصلح، لمتطلبات الطبيعة وما تحتويه، وما نحن سوى جزء بسيط من هذا الكون بما فيه وبما يحتويه.

(ثم ماذا؟) هاتان الكلمتان هما عنوان لكتاب لبروفيسور روسي (س. ج. خورجين) مترجم للعربية قرأته لمرات عدة قبل أن يختفي من مكتبتي. الكتاب يحكي عن تجربة البروفسور(خورجين) مؤلف الكتاب مع طلاب الدراسات العليا ومهندسين وطالبي استشارة علمية وفنية فيما يفعلونه من أبحاث وتجارب في مجالات شتى، وكيف كان يصوب لهم مساراتهم التي كان من الصعب اجتيازها لولا السؤال المنطقي الذي يطرحه عليهم بعد نقاش كل نقطة.. ثم ماذا؟ ومن هذا السؤال تبدأ بدايات جديدة لأفعال علمية مفيدة للبشر وللدولة التي تعتمد العلم معيارا للقوة.

وبإسقاط هذا السؤال على واقعنا السياسي والاقتصادي والعلمي، وإعمال التفكير فيما نراه يحيط بنا ويعيشنا ونعيشه، وفيما يراد لنا و ما نريده، أكتشف أننا لسنا بخير وأن علينا فعل أشياء أكثر صحة، أكثر نجاعة، أكثر دقة تقربنا مما نرومه أو ما جعلناه هدفا لنا، وأجد أننا في أحسن حالاتنا نفكر بطريقة، تتلخص في كيف نجعل ألمنا أقل حدة، وليس في كيف نزيل الألم من حياتنا. ما علينا.. سأطرح سؤالا للجميع، هبو أننا فعلنا ما اتفق عليه بين الأطراف... ثم ماذا؟

سنظل نردد سؤالنا هذا، إلى حين أن نجعل من العلم وسيلة لفهم واقعنا، ولمعالجة ما يستجد في حياتنا من ظواهر أيا كانت سياسية، اجتماعية، اقتصادية أو كيفما كانت. لقد ولى زمن الشعوذة و الجهالة والفهلوة بما فيها الفهلوة السياسية.