كل مدن العالم الغنية والفقيرة والمتخلفة إما تتقدم إلى الأمام وإما تبقى في مكانها.

اكتسحوا حياتنا وأحلامنا البسيطة التي عشناها ورسمناها في الأيام الخوالي.

اعتقلوا الإنسان والمدينة وهوائها وثوبها الوردي الأنيق وجردوها من كل شيء.

غيروا كل شيء.. خطوط السير وإشارات المرور وإلقاء السلام ومعالم الأرض وشواطئ الفرح ومواعيد نومنا ونهوضنا حينما كنا ننهض بصباح منعش نظيف تسطع بين جناحاته همم الانطلاق إلى أعمالنا ومصانعنا ومدارسنا كحمامات بيضاء للسلام ومدينة منضبطة ونظام وسكينة..

غيروا فينا أهازيج الأعراس ولقاءات المحبة حين نقشناها في (واعلى امحنا..) وصحبة وضيوف وطبل وأغانٍ وزفة ونسوة تسترق النظر من أعلى الرفوف..

أضافوا إلى أعراس مدينتنا رصاصات وبنادق وجماعات تسرح وتمرح ليلا كوحوش ضالة وضجيج وهوس وسيارات وأطقم وخاتمة ألم وبكاء ودموع ونعوش بسبب رصاص أصاب الحاضرين.

غيروا كل شيء مواقيتنا ووجباتنا وأمسياتنا اليومية حيث يجمعنا مساء قمري يسامرنا وحبات الضوء تتسع وتصافح كل أرجاء المنزل.

من بلكونات منازلنا نطل على حارتنا ونشاهد أهلنا ورائحة العطور وفتية عابرون يضحكون ويستأنسون ونسوة يدخلن باب الجيران ومجتمع ملائكي.

شوارع مدينتنا ومقاهيها وبقالاتها وساحات مساجدها كفروض يومية تزاورنا ونزورها.

ومن أعلى النافذة المطلة على مساجدنا نشاهد رجلًا كبيرًا صالحًا معتكفًا يقرأ القرآن يديه إلى السماء يبتهل إلى الرحمن إن يحفظ بلاده.

غيروا حياتنا في كل شيء.

فوضى هنا وهناك وضجيج ونقاط تفتيش وقيادات عسكرية ومواكب وتفحيط ومدافع موجهة نحو كل العابرين ومدينة تختنق وتصرخ بطوابير الوقود والغاز وطرقات في منتصفها أطفال وعائلات ونازحون وفقراء يستجدون الحصول على مال.

ودولة معطلة بلا رئيس ولا حكومة ولا مؤسسات وظلام يلف المدينة ولا حياة وداعمون أثرياء يشاهدون بصمت غير إنساني..

في كل مكانِ وجوه متعبة وقلوب منكسرة تهيم بعيدًا تفكر بوجبة غذائية أو أجرة باص أو دبة غاز وعيون حمراء مرهقة من السهر الكهربائي ونظرات شاردة ترقب هذا النمط الجديد من الحياة ومدينة تم كسر عنقها تترنح لا تعرف إلى أين تتجه.