​ذات يوم ربيعي ثوري حملوا لنا بشائر الاستقلال فكان وهمًا كاذبًا فتبدل إلى اعتقال البشر والشجر والحجر والثمر وبعض الزهور تطل بوجهها بشوق وحنين إلى أبراق نسائم الصباح فتختفي برأسها وكأنها فطنت أن مدينتها تحت الاعتقال فعادت إلى مكانها ترتعد.

فوضى عارمة بكل أصناف الشواذ فيتململ الناس بحذر خشية اعتقالهم فلا شيء غير الحصار وطفل يركض على رمال الشاطئ يقيم احتفالا للسلام والطفولة فتتبعه والدته مذعورة ومسرعة خشية الاصطدام بأولئك المجانين.
مدينة مدمرة شوهت ملامحها وكبريائها ووجوه مزورة بلا هوى ولا هوية تعتقل ذلك الجمال الساحر والألوان البهيجة وزخارف الدنيا وليالي الأنس والفرح حين كانت أرضًا حرة تصحى وتنام على سلام شمس تشع من فوق صيرة وتعانق الأرض بسلام.

ومنظومة للحياة في أروع سطوع مدني بالمصانع والمؤسسات والبحار والقلاع والحصون والكنائس ومناهج التعليم وطلبة وطالبات ذاهبون إلى منابر العلوم وصوت الإذاعة الصباحية ينشد صباح الخير من بدري أمانة شلنا يا طير.. وياطائرة طيري على بندر عدن.. وإذا دخلت المدينة قول بسم الله..

في ذلك الفندق الجميل الساطع بالأضواء تحدث ضوضاء وجيوشا وقيادات وسياسيين قيل إنهم جاءوا لعقد مؤتمر إنساني يجمع "دنيا عدن المحطمة" في بعض خطابات وثائرين من كل ثورة ولون وحزب وفصيل يحتسون أجمل البدلات تفوح منهم رائحة العطور والمسك.

فاختتموه ببيان ثم حلقوا بطائراتهم إلى أوطانهم في الغربة.
مدينة تم تهشيمها وبتر جسدها إلى أجزاء وفوق كل جزء تقف الكلاب الضالة والذئاب والفئران والغربان والثعابين تنهشها فامتلأت أسنانهم بالدماء ثم غادروا إلى ثكناتهم.

أرض خاربة لا شيء فيها يقف شامخًا سوى ملامح دولة المستعمر والبنوك ومستشفى اليزابيت ومدارس المدراسي ومتاحف ومكاتب البريد والشارع الرئيسي والمحاكم وشركات المصافي وخزانات المياه ومقرات التلفاز والإذاعة والمسارح والسينما والمسابح ومواطن الملح والمعسكرات.
ترفع المآذن أصوات صلاة العشاء فيهرول أهالي عدن إلى المساجد، لقد قامت الصلاة.. ومدينة لوحدها تلفظ آخر أنفاسها..