> واشنطن "الأيام" العرب اللندنية:

​يبدو أن العالم على أعتاب سباق تسلح جديد مع إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن خطة طموحة لإقامة منظومة دفاعية جديدة مضادة للصواريخ تحت اسم “القبة الذهبية”، بتكلفة مبدئية تصل إلى 175 مليار دولار.

وتهدف هذه المنظومة إلى حماية الولايات المتحدة من التهديدات المتطورة مثل الصواريخ الفرط صوتية والأسلحة التي تنطلق من الفضاء، في محاولة لتأمين الأمن القومي أمام تحديات تكنولوجية وإستراتيجية متجددة.

ولكن هذه الخطوة الأميركية ليست مجرد مسعى دفاعي تقني، بل تحمل في طياتها احتمالات تصعيد تنافسي عالمي، قد يعيد التوازن الدولي إلى نقطة توتر جديدة تزيد من اضطراب المشهد الأمني العالمي.

و فكرة “القبة الذهبية” مستوحاة ظاهرياً من “القبة الحديدية” الإسرائيلية، التي أثبتت نجاحها في حماية إسرائيل من الصواريخ قصيرة المدى والموجهة بصورة محدودة. إلا أن التشابه ينتهي عند هذا الحد، إذ أن الولايات المتحدة تسعى من خلال مشروعها إلى بناء منظومة دفاعية فضائية معقدة تضم الآلاف من الأقمار الصناعية المزودة بأحدث أنظمة الاستشعار وأشعة الليزر الفضائية، لتقاطع الصواريخ الباليستية طويلة المدى والصواريخ الفرط صوتية وأنظمة الإطلاق المدارية عبر مراحل طيرانها المختلفة.

ويفوق حجم وتعقيد هذا المشروع بكثير أيّ نموذج سابق، إذ يتطلب إمكانيات تقنية ضخمة، بالإضافة إلى استثمارات مالية ضخمة قد تتجاوز بكثير التقديرات الأولية، مع تحذيرات مكتب الموازنة في الكونغرس من أن تكلفة الشق الفضائي وحده قد تصل إلى 542 مليار دولار على مدى عقدين من الزمن.

وتقنياً، لا تمتلك الولايات المتحدة حالياً كل الأدوات اللازمة لاعتراض الصواريخ المتقدمة في الفضاء، حيث يتطلب الأمر تطوير صواريخ اعتراضية وأنظمة ليزر دقيقة وقادرة على العمل بمسافات شاسعة وفي زمن قياسي.

وإلى جانب المخاطر التقنية، هناك مخاطر استثمارية واقتصادية، إذ أن ضخ موارد ضخمة في هذا النظام قد يأتي على حساب أولويات دفاعية أخرى أكثر إلحاحاً وقابلية للتحقيق مثل تعزيز الدفاعات الصاروخية الإقليمية والمرونة السيبرانية لمواجهة التهديدات الحديثة، بما في ذلك الطائرات المسيّرة.

وتقول جوليا كورنيور، الباحثة المشاركة في برنامج الأمن الدولي في المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس) البريطاني في تحليل نشره موقع المعهد، إن الأمر الأكثر تعقيداً هو التداعيات الإستراتيجية المحتملة لهذا المشروع، فخصوم الولايات المتحدة، خاصة روسيا والصين، ينظرون إلى “القبة الذهبية” على أنها تهديد مباشر لمنطق الردع النووي، وهو حجر الأساس في الاستقرار الإستراتيجي العالمي منذ عقود.

وإذا ما اقتنعت هذه القوى بأن الولايات المتحدة تسعى لتطوير درع قادر على تحييد أيّ ضربة نووية انتقامية مستقبلية، فإن ذلك قد يؤدي إلى اندلاع سباق تسلح فضائي عالمي خطير، يشمل تطوير ترسانات هجومية وأنظمة إطلاق متقدمة، في ظل غياب قواعد دولية تحكم استغلال الفضاء.
و بالفعل، سبق لبكين وموسكو أن وصفتا المشروع بأنه “مزعزع للاستقرار بشكل كبير،” وأشارتا إلى إمكانية اتخاذ إجراءات مضادة تشمل توسيع ترساناتهما الهجومية أو تطوير أسلحة فضائية جديدة.

وتطرح هذه التطورات تساؤلات عميقة حول مستقبل الأمن الدولي في زمن تتراجع فيه أطر ضبط الأسلحة التقليدية. فقد تم تعليق معاهدة “ستارت الجديدة” التي كانت تشكل الركيزة الأساسية لضبط الترسانات النووية بين روسيا والولايات المتحدة، ومن المتوقع انتهاء صلاحيتها في 2026 دون وجود بديل.

وكذلك توقفت محادثات ضبط الأسلحة بين واشنطن وبكين، خاصة بعد التوترات الناتجة عن مبيعات الأسلحة الأميركية إلى تايوان.

وفي ظل هذا الفراغ، تزداد مخاطر سوء التقدير والتصعيد غير المحسوب، خصوصاً مع تسارع التطورات التكنولوجية في مجالات الصواريخ والفضاء والذكاء الاصطناعي التي تتجاوز القواعد والمعايير الحالية.

ويرى الكثير من الخبراء أن أمن الفضاء يجب أن يشكل مجالاً رئيسياً للحوار الإستراتيجي بين القوى الكبرى، خاصة الولايات المتحدة وروسيا والصين.

ومع تزايد اعتماد القوى النووية على أنظمة الفضاء للأغراض العسكرية والمدنية، تتفاقم مخاطر سوء الفهم أو التصعيد غير المقصود، وهو ما يتطلب إجراءات شفافة وبسيطة مثل تبادل إخطارات إطلاق الأقمار الصناعية، ومناقشة القدرات ذات الاستخدام المزدوج، بهدف بناء الثقة وتجنب الصراعات المحتملة في مدار الأرض.

ويمكن أن يشكل هذا التركيز على الفضاء نقطة انطلاق لإعادة بناء حوار إستراتيجي أوسع، ضروري للحفاظ على الأمن العالمي.

وتاريخياً، لا يمكن تجاهل الدروس المستفادة من محاولات سابقة مثل مبادرة الدفاع الإستراتيجي في الثمانينات، المعروفة بـ”حرب النجوم”، التي استنزفت موارد هائلة وأدت إلى تفاقم التوترات الدولية، ما يفرض على صناع القرار اليوم التفكير ملياً قبل الانخراط في سباق تسلح فضائي جديد قد يضاعف من حدة الانقسامات العالمية بدلاً من أن يعزز الأمن.

وفي ظل التحديات الراهنة وانهيار أطر ضبط التسلح، يجب على الولايات المتحدة أن تستغل مشروع “القبة الذهبية” ليس فقط كأداة دفاعية، بل كفرصة دبلوماسية لإعادة إطلاق حوار دولي جديد يهدف إلى ضبط التسلح في الفضاء وتطوير قواعد حوكمة جديدة، بدلاً من المضي قدماً في دورة تصعيدية تزيد من انعدام الاستقرار.

وقد يمنح النجاح في هذا المسعى العالم فرصة نادرة للخروج من دوامة التنافس العسكري إلى مسار تعاون إستراتيجي ضروري لحماية أمن البشرية في عصر تكنولوجيا الفضاء.