> د. طارق محمد حامد
يَتسلَّل الغُروب شيئًا فشيئًا، جاثِمًا بِظُلمته على الصّدور، يُخالِط بِظُلمته الذِّكريات تئنُ بأنينه، ومِنْهما يتَعالَى مدٌّ هادرٌ مِن الذِّكريات، كأنَّهما معًا طوفان يَقْتلع في سيله الجارف كلَّ الجذور من على وجه الأرض، يَقْتلع الماضي، ويُشوِّه الحاضر، ويَمْسخ الهُويَّة، صرخات تَميد من هَولِها الجبالُ كأنَّها صيحة الموت، كلّ شيء يَسْمعها إلاَّ الغارقون في لَهْوهم وملذَّاتهم، واللاَّهثون وراء نزواتِهم، يركلون بأرجُلهم كلَّ شيء جميل في حياتنا، وعلى عكَّازه يتوكَّأ رجلٌ تُوحي قسماتُ وجهه بالمُعاناة والمكابَدة في دنياه، ويرسم صورةً بائسة لأبناء جيله وجلدته، يَمَّم وجهه تِلْقاء مسجده الأسير، وجهه الَّذي خطَّ فيه الزمنُ خطوطًا من الأَسى والألَم، ممزوجًا بذكريات الطُفولة الحالمة والشَّباب المتوثِّب،
والتي تحطَّمَت على آلة الصَّلف والغُرور من عدوٍّ لا تتَّضِح مَعالِمُه، يتشكَّل ويتلوَّن كالحية الرَّقطاء، تتخفَّى خلف الغُصون، وتلدغ في مقتل، وعدوٍّ آخَر هو في الأصل أخٌ وصديق، يتلوَّن هو الآخر كقوس قزح، يُمْطِرنا أحيانًا بِنَوء، وأمطارٍ حمضيَّة تحمل في قطراتها المرضَ الخبيث، سرطان يتسلَّل كالليل، ينشر المرض في كلِّ جزءٍ من الأمة كلها، يجعل الأصدقاء فُرَقاء، والإخوانَ أعداء، بأسُهم بينهم شديد، يَصْنع جدارًا فولاذيًّا بين كلِّ أخٍ وأخيه؛ كالسجَّان بين كلِّ زنزانة وأخرى قضبانٌ حديديَّة، تحبس خلفها كلَّ قيمة، تحبس خلفها كلَّ رابطةٍ وذكرى، وتَتْركها صرعى كأنَّها أعجازُ نخلٍ خاوية، تتركها للأنين والحنين.