> محمد أبوالفضل:

​تعددت أنواع التحريض في إسرائيل ضد مصر مؤخرا، وتراوحت مستوياتها بين سياسيين يريدون إرباكها بعد موقفها الرافض لتوطين سكان قطاع غزة في أراضيها، وبين عسكريين تعمدوا التركيز على قوة جيشها وخطورته على إسرائيل بغرض تشتيت انتباه القاهرة في قضايا فرعية، قد تبعدها عن اهتمامها بعدم حصر الأزمة في الحرب على غزة ومستقبل حركة حماس.

استمعت على إحدى الفضائيات العربية للمحلل الإسرائيلي إيلي نيسان قبل أيام وهو يقلل من تصريحات وزراء وعسكريين وسياسيين ضد مصر، ويصمم أنها دخان في الهواء، ولا تعبر عن التوجهات الرسمية في إسرائيل، وحاول الدبلوماسي السابق حصرها في نطاق المزايدات الداخلية والتعبير عن الرأي بحرية، وتجاهل أن غالبية من تحدثوا على صلة بالحكومة، وأحدهم رئيس الأركان هرتسي هاليفي الذي غادر موقعه العسكري قبل أيام قليلة، والذي بشر بمواجهة محتملة مع مصر في أي لحظة.

تتعامل القاهرة مع التحذيرات والتهديدات والمخاوف من تضخم القدرات العسكرية للجيش بقدر واضح من الانضباط ولم ينجر أحد المسؤولين للرد عليها لا بتأكيدها أو تخفيفها، ولم تعرها السلطة اهتماما مباشرا، وتتحرك القيادة المصرية في هذه المسألة بما يقتضيه الأمن القومي، من استعدادات واحتياطات وجاهزية فنية ومناورات عسكرية في منطقة سيناء القريبة من إسرائيل، وهو ما التقطته وسائل إعلامها لتسليط الضوء عليه، وكأن مصر تجهز لحرب ضد إسرائيل.

تجاهل كل من عبر عن هواجسه من الجيش المصري وشكوكه في نواياه وجود قوة دولية لحفظ السلام في سيناء، ولجان أمنية مشتركة تجتمع كل ثلاثة أشهر، وأن مصر تؤكد أن السلام خيار إستراتيجي، ومهنية جيشها عملية طبيعية في ظل صراعات وتوترات تعم المنطقة، وعلى بعد خطوات من حدودها توجد حرب ضارية تخوضها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في غزة، ما يستلزم يقظة، تضاعفت ملامحها مع دخول قوات الاحتلال إلى ممر فيلادلفيا في جنوب القطاع والتصميم على التمركز فيه فترة طويلة، وهو خرق فاضح لبروتوكولات اتفاقية السلام.

يفسر الخطاب الإسرائيلي العام على أنه تحريض لتسخين الأوضاع مع مصر، والتي تمر بفترة حرجة من التوتر منذ اندلاع الحرب على غزة، وإرهاقها في تفاصيل بعيدة عن جوهر الأزمة، فتارة يتم الحديث عن اكتشاف أنفاق على الجانب الفلسطيني، مغلقة منذ سنوات على الجانب المصري، واتخاذها ذريعة على استمرار تهريب الأسلحة لحركة حماس، ويتناسى من يروجون لذلك أن السلاح منتشر في يد عناصر المقاومة في الضفة الغربية أيضا، والتي لا حدود لها مع مصر، وثبت أن حماس تحصل عليه من إسرائيل نفسها، وهو ما يتغافل عنه عسكريون وسياسيون فيها، ويتشبثون بتوجيه اتهامات للقاهرة، بهدف إحراجها وتشويه دورها والتشكيك في وساطتها.

علاوة على توفير مبررات لمنع تحمل الأجهزة الأمنية في إسرائيل مسؤولية انتشار السلاح لدى المقاومة والتنصل من الإخفاق في منع عملية طوفان الأقصى، وإيجاد حجة لبقاء قوات الاحتلال في ممر فيلادلفيا، والذي لم ترد عليه مصر بالتصعيد كي لا تمنح مروجي الشائعات ذرائع لتثبيت خطابهم، وتعاملت معه في صمت من خلال تكثيف القوات العسكرية بالقرب من الحدود مع غزة، وعدم الاعتداد بما فرضته اتفاقية السلام من ضوابط فنية، ولن تكون لدى قادة إسرائيل فرصة للاحتجاج، لأن الرد المصري سيكون جاهزا، أعيدوا الأوضاع إلى وضعها الطبيعي يتغير كل شيء بعدها.

عززت التصرفات الإسرائيلية في غزة من تقدير ثابت يتعلمه كل الملتحقين بالكليات العسكرية في مصر، يقول إن الخطر يأتي دائما من الجبهة الشرقية، قبل أن تظهر إسرائيل على الخريطة الجغرافية، ولم تغير اتفاقية السلام هذا التقدير، ومنحته التحركات والإجراءات التي تتخذها قوات الاحتلال في غزة مصداقية عالية، ثم تأتي إسرائيل وتنتقد برودة السلام مع مصر ولم توجه أسئلة: من أين جاء هذا البرود، ولماذا هو مستمر، وكيف تطالب تل أبيب بسلام دافئ وهي لا تحترم ضوابطه؟

لا تريد إسرائيل تفكيك اتفاقية كامب ديفيد أو السماح بانهيارها، ولا تزال ترى أن التسوية السياسية مع مصر خيار إستراتيجي لن تفرط فيه بسهولة، لكنها تلجأ من وقت إلى آخر للتشويش من أجل مضايقة القاهرة، وخلق فتنة بينها وبين الإدارة الأميركية، ومحاولة إزعاجها بنشر أكاذيب لتجبرها على عدم انخراطها بقوة في القضية الفلسطينية والقبول بتصفيتها نهائيا، وخلط الأوراق الإقليمية وإعادة هندسة المنطقة.

يجد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في ذلك فرصة للهروب إلى الأمام، والتنصل من استحقاقات داخلية، فهو يعلم أن حرب غزة قريبا ستتوقف ووقف إطلاق النار ستفرضه واشنطن، وبالتالي عليه أن يجد مناوشات مع جهات أخرى كل فترة، بدأها مع إيران وحزب الله في لبنان وجماعة الحوثي في اليمن وأخيرا سوريا.

في خضم هذه المحطات، مجتمعة أو متفرقة، لم تغب مصر، ولم تصبح العلاقات معها هادئة، حيث كان نتنياهو يخترع تحرشات معها، ويجعل جبهتها متوترة على الدوام، لأن الاستقرار يوفر لمصر مساحة حركة أكبر وعلى جبهات عديدة، فإذا كانت وسط المضايقات حافظت على لياقتها، فما بال المتطرفين لو نأت عنها إسرائيل؟

الإجابة الواقعية، لن يتغير شيء كثير، لأن القاهرة تتعامل مع الخطاب التحريضي الموجه إليها بدرجة عالية من الحكمة، ولم تسمح لاستفزاز من هنا أو اتهام من هناك لإجبارها على تغيير بوصلتها أو الدخول في مناوشات بالمثل مع إسرائيل، ومنح فرصة لاتساع دائرة التوتر المتعمد، وفي هذه الحالة سيربح من راهنوا على جر مصر إلى حرب، لن تواجه فيها إسرائيل وحدها بل معها الولايات المتحدة، ويستطيع نتنياهو التخلص من العبء الثقيل الذي يمثله الجيش المصري كآخر الجيوش العربية القوية.

ربما فسر الصبر على ترهات بعض المسؤولين في إسرائيل أنه ضعف، لكنه في الحقيقة تفويت للفرصة عليهم لتوسيع نطاق الصراع في المنطقة، لأن الجاهزية الظاهرة على الجيش المصري للردع وليست الهجوم، وكما قال مندوب مصر في الأمم المتحدة السفير أسامة عبدالخالق، إن كل الدول الكبيرة لديها جيوش قوية للدفاع عن أمنها القومي من أي اعتداء عليه.

هناك تكتيك تتبعه القاهرة يخدم إستراتيجيتها، يعتمد على الترفع عن الصغائر، والتفكير في التعامل مع الخصوم بهدوء لإرباك خططهم والقفز على أي محاولة للتورط في حرب عبثية، وهو ما يقلق إسرائيل، ويفسر جانبا مهما من حملة التحريض التي انطلقت في توقيت متزامن على أصعدة مختلفة مؤخرا، وقد تكون أسباب أصحابها منطقية في الخوف من قوة الجيش المصري، لكن دوافعهم الحقيقية خفية.
عن "العرب اللندنية"