سورة البينّة هي سورة مدنية، عدد آياتها ثمانية آيات، وتقع في الجزء الثلاثون من جزء عمّ، ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن اليهود والنصارى وموقفهم من دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن بان لهم الحق وسطعت أنواره، وبعد أن عرفوا أوصاف النبي المبعوث آخر الزمان وكانوا ينتظرون بعثته ومجيئه، فلما بُعث خاتم الرسل كذبوا رسالته ولم يؤمنوا به.
ثم تحدثت السورة عن عنصر هام من عناصر الإيمان وهو؛ إخلاص العبادة لله -العلي العظيم-، وتحدّثت عن مصير أهل الإجرام فقد وصفهم الله -تعالى- بأنهم: "شر البرية "، وهم الكفرة من أهل الكتاب والمشركين، وتحدثت عن مصير المؤمنين كما وصفهم الله -تعالى- بأنهم: "خير البرية " وهم أصحاب المنازل العالية، وقد بشرّهم بالخلود في جنات النعيم مع النبيين، والصدّيقين، والشهداء، والصالحين.
وقد تعدّدت أسماء سورة البينّة وقد ذكر لها المفسرون ستة أسماء منها:"البينة، لم يكن، القيّمة، الانفكاك، البريّة، أهل الكتاب" .
* ما سبب نزول سورة البينة؟
ورد في كتب التفسير أنّ سبب نزول سورة البيّنة هو أنّ اليهود والنصارى كانوا في ظلام دامس من الجهل بما يجب عليهم الإيمان به والسير عليه من شرائع أنبيائهم - إلّا من عصم الله منهم-، وكان ذلك الظلام والجهل بسبب ما فعله أسلافهم من تغيير وتبديل في الشرائع؛ حيث أدخلوا فيها ما ليس منها إمّا لسوء فهمهم لما أُنزل على أنبيائهم، أو لأنّهم استحسنوا ألوانًا من البدع وظنّوها مؤيّدة للدين، ولكنّها كانت هادمة لأركانه، أو لأنّهم أرادوا إفحام خصومهم والانتصار عليهم، وقد توالت على ذلك الأزمان، وكلّما جاء جيل زاد الوضع ظلامًا وجهلًا حتّى خفيت معالم وطُمست أنوار اليقين.
وكان إلى جوار هؤلاء عبدة الأوثان من العرب وغيرهم من الملل الأخرى التي جعلت الأوثان آلهةً لها، فمرنت نفوسهم على عبادتها والخنوع لها وصار من الصعب تحويلهم عنها، كما كانوا يزعمون أنّ هذا هو دين إبراهيم الخليل -عليه السلام-، وكان الجدل ينشب أحيانًا بين المشركين والنصارى، وأحيانًا بين المشركين واليهود، فكان اليهود يقولون للمشركين: إنّ الله -تعالى- سيبعث نبيًّا من العرب من أهل مكة ويصفونه لهم، ويخبرونهم بأنّه عندما يُبعث فسيقومون بنصرته ومؤازرته.
فلمّا بُعث رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قاومه المشركون وعصوه ورفعوا راية العداء في وجهه، وآذوا كلّ من اتبعه وسلك سبيله؛ ممّن أنار الله -تعالى- بصائرهم وشرح صدورهم لمعرفة الحق، أمّا اليهود فلم يتخذوا الموقف الذي تحدّثوا عنه قبل ظهور نبوّة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بل صاروا يقولون إنّه لم يأتِ بشيء جديد وكلّ ما جاء به مذكور لديهم في كتبهم التي نزلت على أنبيائهم، فلا ينبغي لهم أن يتركوا ما هم عليه من الحق ليتّبعوا رجلًا لم يأتِ بأفضل ممّا هو بين أيديهم.
وقد وصل الأمر باليهود أنّهم كانوا يقفون بصفّ المشركين في عدائهم على رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بعدما كانوا يعاندونهم ويهددونهم بأنّهم سيتبعوّنه وينصرونه قبل بعثته، ففي الرد على مزاعم هؤلاء الكافرين الذين يجحدون الحقّ الواضح ويغمضون أعينهم عن النظر فيه نزلت سورة البينة.
* مكان نزول سورة البينة
ذكر ابن عاشور في "التحرير والتنوير" اختلاف أهل العلم في كون سورة البيّنة سورة مكية أو مدنية؛ حيث قال ابن عطية إنّ الأشهر هو أنّ السورة مكيّة، وهو قول جمهور المفسرين.
ولكنّ ابن الزبير وعطاء بن يسار قالوا إنّها مدنية، وذكر القرطبي أنّ الجمهور وابن عباس -رضي الله عنهما- قالوا إنّها مدنية، ونسب القول بأنّها مكيّة إلى يحيى بن سلام، وقد أورد ابن كثير في تفسيره حديثًا يُفيد بأنّه لمّا نزلت سورة البيّنة أمر الله تعالى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بواسطة جبريل -عليه السلام- أنّ يقرأها أُبي بن كعب -رضي الله عنه- وأُبي من أهل المدينة.[٣] وقد جزم البغوي وابن كثير أنّ السورة مدنية -أي أنّها نزلت في المدينة- وقال ابن عاشور إنّ هذا هو الأظهر لكثرة ما فيها من تخطئة أهل الكتاب، وللحديث الوارد في الأمر بقراءة أُبي لها، وعدّها جابر بن زيد من السور المدنية، وقال ابن عطية: إنّ النبي -صلّى الله عليه وسلّم- إنّما دُفع إلى مناقضة أهل الكتاب بالمدينة.
* ترتيب نزول سورة البينة
تعدّ سورة البيّنة السورة المئة وواحد في ترتيب نزول سور القرآن الكريم، وقد نزلت بعد سورة الطلاق وقبل سورة الحشر، فيكون تاريخ نزولها قبل غزوة بني النضير التي كانت في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة، فيكون بذلك تاريخ نزول سورة البيّنة في أواخر السنة الثالثة للهجرة أو أوائل السنة الرابعة.
أمّا عن مناسبة سورة البيّنة للسورة التي سبقتها في ترتيب سور المصحف وهي سورة القدر؛ فيقول السيوطي: "هذه السورة واقعة موقع العلّة لما قبلها؛ كأنّه لما قال -سبحانه-: {إنا أنزلناه}، قيل: لم أُنزل؟ فقيل: لأنّه لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتّى تأتيهم البيّنة، وهو رسولٌ من الله يتلو صحفًا مطهرة، وذلك هو المنزل".
* فضل سورة البينة
إنّ فضل سورة البينّة عظيم وجليل لكل مسلم، فهي توضّح جزاء من يسعى من العباد لمرضاة الله -تعالى- ويعمل صالحًا، فيفوز بلقب خير البرية في الدنيا والآخرة، وتُعدُّ منارةً للقلب إذا عرُفت أسرارها وتمَّ التدبر والتأمل في عمق معانيها، فيتعلم منها المسلم الفضائل الكثيرة التي تُوسع إدراكه وتهديه إلى طريق الحق والطريق المستقيم.
ومن الأسرار البسيطة التي يمكن أن نكشفها حول سورة البينة، أنَّ مقصد السورة في أولها يُبين ويُوضح المغزى من بعثة الرسول -عليه الصلاة والسلام- وسبب نزول القرآن الكريم، وتأتي الإجابة عليها بالبينة والهدى.
ولسورة البينة فضائل عدة، وبيان بعض منها فيما يأتي:
تغرس في قلب المسلم مشاعر الثقة والعزة بالرسول -عليه الصلاة والسلام- والحرص على السير على نهجه.
اتخاذ القدوة الحسنة في حياة المسلم وخير قدوة للمسلم هو الرسول -عليه الصلاة والسلام-.
السعي لنيل مرضاة الله -تعالى-، والحرص على أن يفوز المسلم في الدنيا والآخرة ليكون من خير البرية.
التمسك بدين الله واتباع أوامر الله وإقامة الصلاة حق إقامتها.
الحرص على التواضع مع من هم أقل منزلة علمية؛ فالرسول -عليه الصلاة والسلام- قرأ على أُبي بن كعب -رضي الله عنه- ليعلم الناس التواضع.
*الأحاديث التي ذكرت سورة البينة
من الأحاديث التي ذكرت سورة البينة ما يلي: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه وأرضاه-، قالَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- لِأُبَيِّ بنِ كَعْبٍ: (إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا، قالَ: وَسَمَّانِي لَكَ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: فَبَكَى).
عن أبيّ بن كعب -رضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: (إِنَّ اللهَ أمرَنِي أنْ أقرأَ عليكَ، فقرأَ عليهِ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فقرأَ فيها: إِنَّ ذاتَ الدِّينِ عندَ اللهِ: الحَنِيفِيَّةُ المُسْلِمَةُ، لا اليَهودِيَّةُ ولا النَّصْرَانِيَّةُ، مَنْ يَعْمَلْ خيرًا، فَلَنْ يُكْفَرَهُ).
وفي رواية للإمام أحمد عن أبي حبة البدري قال: (لمَّا نزَلَتْ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى آخِرِها، قال جِبريلُ صَلواتُ اللهِ عليه: يا رسولَ اللهِ، إنَّ ربَّكَ يأمُرُكَ أنْ تُقرِئَها أُبَيًّا، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِأُبَيٍّ: إنَّ جِبريلَ أمَرَني أنْ أُقرِئَكَ هذه السورةَ، فقال أُبَيٌّ: أوَذُكِرْتُ ثَمَّ يا رسولَ اللهِ؟ قال: نَعَمْ، فبَكى أُبَيٌّ).
وهذه الأحاديث فيها من الفضل العظيم والرفيع لأُبي بن كعب رضي الله عنه، إذ فيها أمر من الله -سبحانه وتعالى- إلى الرسول -عليه أفضل الصلاة والسلام- أن يقرأ على أُبي هذه السورة، وهذا يشير إلى أنه أقرأ الصحابة -رضي الله تعالى- عنهم أجمعين، فله منزلة عالية عند المسلمين وعند رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-؛ فهو صحابي جليل وأحد كتّاب الوحي وأفضل من قرأ القرآن الكريم.
ذكر ابن كثير -رحمه الله-؛ أنّ قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- على أُبي لم تكن قراءة تعلم واستذكار بل كانت قراءة إبلاغ وتثبيت، فالله -عز وجل- يتولى الصالحين ويكن معهم دائماً، ولما كان أُبي رجلاً صالحاً عبداً لله قانتاً حنيفاً؛ فالله -عز وجل- لم يتركه للشكوك والأوهام والشبهات، بل يسّر له صحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
*دروس مستفادة من سورة البينة
تضمّنت سورة البيّنة دروسًا قيّمة وحقائق تاريخية وإيمانية عظيمة، ومنها ما يأتي:
بعثة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- كانت ضرورية لتحويل الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين عمّا كانوا عليه من الضلال والاختلاف، وما كانوا ليتحوّلوا بدون البعثة النبوية.
أهلّ الكتاب لم يختلفوا في دينهم نتيجةً للجهل والغموض، وإنّما اختلفوا بعدما جاءهم العلم وجاءتهم البيّنة.
الدين في أصله واحد ووقواعده واضحة يسيرة لا تدعو إلى الافتراق والاختلاف. الكفر بعد إقامة الحجة هو سبب في كون العبد من شرّ البرية وسبب في استحقاقه للعذاب.
الإيمان والعمل الصالح يجعل المؤمن من خير البرية وهو الطريق لفوزه بالجنة ونجاته في الآخرة.