- الوصية الخامسة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال تعالى: ﴿ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 17]، يوجه لقمان في هذه الوصية ابنه إلى ما يثبت ويرسِّخ عنده المعروف، ويمنع عنه المنكر؛ من خلال الدعوة إلى المعروف والنهي عن المنكَر؛ لأن الإنسان إذا ما دعا إلى شيء جمع عنه من المعلومات الكثير، واستخدم كل مداركه وقدراته في سبيل دعوته إليه، ومِن ثَمَّ فهو أولى الناس بالالتزام بهذا المعروف، وهذا هو الحال مع النهي عن المُنكَر؛ فالناهي عن شيء لا بدَّ أنه يعلم مضارَّه، فهو أجدر على اجتنابه، ومِن ثَمَّ تُصبِح هذه الوصية بمثابة الدرع الواقي والحِصن الحصين الذي يَحمي الأولاد من الزيغ والهلاك.
فضلاً عن أن لقمان في هذه الوصية أيضًا يوجه ابنه إلى تحمل المسؤولية الاجتماعية، فيوجهه إلى تحمُّل هموم مجتمعه، وعدم السلبية تجاه ما يَحدث في المجتمع من اجتناب المعروف وإتيان المُنكَر، فلا بد للمُلتزمين من دور في الإصلاح، وإلا فإن الفساد الاجتماعي ليس بمعزل عن مجتمعه، وكما يقول الله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 25].
وبه يدلنا لقمان على أسلوب ثالث من أساليب التربية، وهو أسلوب التعزيز، وهو تقوية التوجيه بأن يُضيف المربي إلى فعل الولد أو إلى التوجيه والإرشاد ما يُعزِّز ويقوِّي من اكتساب هذا التوجيه والتعوُّد عليه.
- الوصية السادسة: الآداب في معاملة الناس
والصَّعَر: داء يُصيب الإبل فيَلوي عنقه، فاستعار هذا الأسلوب كناية عن التعالي والاستكبار على الناس، ليرفع ذلك الحكيم في نفس ابنه أن هذا السلوك الشاذ هو بمثابة داء نفسي يُصيب الإنسان مثل داء الصعَر الذي يُصيب الإبل، واستخدامُه لهذا الأسلوب في النهي عن الكِبر أبلغُ في التنفير منه والزجر عنه من استخدامه للنهي بدونه؛ فهو يخاطب وجدان ابنه كما أسلفنا، فيُشعره بأن هذا السلوك هو سلوك حيواني، ولا يسلكه الحيوان إلا إذا كان به مرض، فيجدُرُ بالإنسان المكرم المعافى ألا يسلك مثل هذا السلوك الذي تَنفِر منه الطباع.
وهذا أسلوب رابع من أساليب التربية التي يُعلِّمها لنا الله إلى يوم القيامة على لسان ذلك الحكيم، فأسلوب التشبيه أسلوب تربوي فعال؛ لأنه يجمع بين مخاطبة العقول والنفوس، وهو عبارة عن توجيه للخير، أو نهي عن الشر، في أسلوب ضِمني غير مباشر، ولذلك فهو آكد وأبلغ في الاستخدام التربوي من كثير من الأساليب المباشرة.
والكِبْر داء نفسي واجتماعي يَشعُر معه صاحبه بأنه أفضل من غيره، فيَسلك ما يُعبِّر عن هذا الشعور فيتأذى منه الناس لذلك، فهو أسلوب يثير الكراهية والبغضاء، ويَحمل النفوس على الحقد فيَقتُل معالم الأخوة الاجتماعية، ويَصنع بدلاً من المحبة والألفة والمودة بين أفراد المجتمع الكراهيةَ والحقد، فتتفكَّك بذلك أواصر العلاقات الاجتماعية، وتَزول هيبة المجتمع ووحدته من كثرة الخلافات والانشقاقات الاجتماعية التي يَجلبها هذا المرض في حال تفشِّيه.
- الوصية السابعة: النهي عن التكبر
وبعد أن أنهى لقمان وصيته السابعة أتبع وصيته بأسلوب حكيم في شدة التنفير، وحيث إن سلوك الكِبر والفخر على الناس لا يرضاه الله ولا يحبه، وبالتالي لا يحب فاعله، فهذا الأسلوب جاء تأكيدًا وتعزيزًا للوصيتين السابقتين، بما لا يدع مجالاً للوقوع في هذا الدَّاء العُضال.
ومنه نتعلَّمُ أن النهي عن السلوك الشائع أو الأمر بالسلوك الغائب يَنبغي أن يُكرَّر ويؤكَّد، ولكن بأسلوب لا يبعث على الملل؛ لأن التكرار يؤكد المعنى ويُرسِّخه، ولكن مع المغايرة في الأسلوب، حتى لا يكون باعثًا على الرتابة والملل فتضيع ثمرته، وهذا التكرار هو الأسلوب الرابع من أساليب التربية التي استخدمها لقمان الحكيم مع ابنه.
- الوصية الثامنة: الاعتدالُ والتوسط في الأمور
- الوصية التاسعة: الحث على الثقة بالنفس
هذه الوصية هي حثٌّ على الثقة بالنفس، وتنفير من سوء الأدب؛ فالصوت المرتفع دليل على ضعف حجَّة صاحبه، فهو يُحاول أن يُفحم المخاطب ويَحمله على رأيه بعلوِّ الصوت بدلاً من الحجة والإقناع؛ لذلك فهو شاكٌّ فيما يقول، لا يقدر شخصيته، يَشعُر مع ذلك بالنقص، فيُحاول أن يستعيض عن ذلك بالحدة والغلظة في القول، لذلك فهي وصية ضمنية بمثابة دعوة وحثٍّ على التثبُّت والتروِّي قبل الكلام، والوثوق بالنفس وتقدير الذات.
وفي قوله: ﴿ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ [لقمان: 19]، لقمان بهذه الجملة يُزوِّد ابنه بالمعلومات في أثناء انشغاله بنُصحه وإرشاده، فجمَع فيها بين التنفير والتحذير من ارتفاع الصوت وبين إكساب المعلومات وتوسيع مدارك العقل.
وما فعله لقمان يُنادي به التربويون اليوم، فهم ينبهون على أن المربي الجيد هو الذي يجمع بين التوجيه والإرشاد وبين التزويد بالمعلومات والبيانات.