​> هل كان لقمان عليه السلام نبيًا أو حكيمًا؟
قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [لقمان: 12]، والذي أجمع عليه العلماء أنه كان حكيمًا بحكمة الله، موصوفًا بالحكمة، وهي الإصابة في الأمور؛ فهي تقتضي العلمَ النافع والعمل بهذا العلم.

وقد بدأ الله سبحانه وتعالى بالتعريف بلقمان، ووصَفه بالحكمة والصلاح قبل الخوض في وصاياه لابنه؛ لإشعار القارئ بأهمية هذه الوصايا اللقمانية، فصاحبها ذو حكمة بالغة، وعقل بالغ راجح؛ ولذلك ذكَرَها الله في كتابه؛ ليَعمل بها المسلمون حتى تقوم الساعة.

وصايا لقمان عليه السلام لابنه
هذه الوصايا عبارة عن تسْع مواعظ جمعْنَ في طياتها جميع مظاهر التربية، كما أن كل موعظة فيها أصل من الأصول التربوية التي يجب أن يَكتسبها الأولاد، وإذا أخل المربي بواحدة منها ولم يَكتسِبها الصبي اختلَّ ميزان التربية عند الصبي، وبان تأثيرها عليه، بحيث يُلاحَظ عليه هذا النقص، فانتبه أيها المربي إلى هذه الوصايا، واحرص عليها أشدَّ الحرص.

الوصية الأولى: التوحيد
قال تعالى عن لقمان: ﴿ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13] هي الأولى؛ فهي الأَولى والأهمُّ في أولويات المربي الراشد العاقل، فهي الغاية التي لها خُلق الإنسان، وهي وظيفته الأساسية؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، والذي يَنشأ على عبادة غير الله فقد خسرَ دنياه وآخرته، وقضى عمره في همٍّ وغمٍّ وضيق وتعاسة؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 125].

لذلك أكَّد لقمان وصيته بعدَّة مؤكدات؛ ليشعر ابنه بأهميتها وخطورتها؛ منها قوله: ﴿ يَا بُنَيَّ ﴾ استرقاقًا واستعطافًا له؛ لجَذب انتباهِه لما سيُلقى عليه، فضلاً عن تقديم النهي وتصدُّره للوصية، وفصل أداته، فضلاً عن استخدام أداة التوكيد ﴿ إِنَّ ﴾، فضلاً عن اللام في قوله: ﴿ لَظُلْم ﴾، فضلاً عن إيراده سبب النهي وعلته، فضلاً عن تعظيم النهي وتهويله، وكان ذلك كله لما يعلمه ذلك الرجل الثاقب النظر من خطورة الشِّرك.

الوصية الثاني: بر الوالدين
قال تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14]، وقرَن لقمان بين هذه الوصية وبين عبادة الله وعدم الشرك به.

وبعد أن أوصى لقمان بالوالدَين يخصُّ أمَّه ببيان ما تُكابده وتعانيه من المشاق والمتاعب في أثناء الحمل؛ بحيث يتزايد ضَعفُها يومًا بعد يوم، وبعد الولادة لا يَزول، ويتجلى هذا العناء وتلك المشقة بأن تدخل بولدها في فترة الحضانة عامَين كاملين أيضًا من العناء والتعب النفسي والبدني، وقد لَخَّص لقمان هاتَين المرحلتين برغم ما يُعانيه الأب والأم من التعب والمشقة لأجل ولدهما حتى الموت؛ لأنهما يصل فيهما العناء والمشقة بالألم أقصى ما يكون، ويكون الولد فيهما أضعف ما يكون، يَخصُّهما بالذكر لاستعطاف الولد واسترقاقه ومخاطبة إحساسه ومشاعره، فيكون مع ذلك الوعظ أبلغ وأجدى لدى الصبي.

ويُستفاد من قوله تعالى: ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14]، أنَّ شكْر الوالدَين المُنعمين اللذين جعلهما الله سببًا في الحياة والوجود يأتي بعد شُكر مَن سبَّب الأسباب، وهذا يُشعِر بترتيب الواجبات والحقوق.

كما بيَّن له فضلهما ليحثَّه ويَدفعه إلى أهمية الاعتراف بالجَميل وردِّه، ويُبعده عن الجحود والنكران الذي يؤدِّي إلى البُغض والكراهية، اللذين يؤديان إلى العزلة والانقطاع عن الناس، وهذا ضد طبيعة الإنسان.

وتختتم هذه الوصية بمن يَنبغي مصاحبتهم ومُعاشرتهم واتباعهم بقوله تعالى: ﴿ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ﴾ [لقمان: 15]؛ أي: المستحقين الاتباع هم الذين يَخصُّون الله بالعبادة، ويُخلِصون له في الطاعات وعمل الصالحات؛ لأن هؤلاء لا يأمرون إلا بمعروف، ولا يَنهون إلا عن مُنكَر، ففي اتباعهم الفوز بالدارَين، وهذا هو هدف التربية القرآنية.

الوصية الثالثة: مراقبة حدود الله
﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 16]، بعد أن خاطب لقمان وجدان ابنه في الوصية السابقة، يَستكمِل هذا الخطاب في هذه الوصية، فيَبعث في نفسه الوازع على مراقبة حدود الله، والوقوف عند زواجره والتزام أوامره، بغضِّ النظر عن وجود الرقابة الخارجية من أفراد وقوانين وسلطات، وغير ذلك، ومن الثابت عمليًّا أنه لا نجاح لأي نظام رقابي لا يَرعى تَنمية رقابة الذات، فمع وجود القوانين واللوائح تَحدث الجرائم، منها ما يُكشف ويفتضح أمرها، ومنها ما تظل مستورة لا يعلم بها إلا الله، ناهيك عن جرائم العمل من تكاسل ورشوة وغيره، فلكل فرد خلوات وانفرادات مع نفسه، يستطيع من خلالها خرق الحدود والقوانين، بحيث لا يَردعه إلا استحضار رقابة الله له.

الوصية الرابعة: إقامة الصلاة
﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ ﴾ [لقمان: 17]:
يوجِّه لقمان ابنه في هذه الوصية إلى أداء العبادات، وعمل الطاعات، واختصَّ الصلاة دون سائر العبادات؛ لأن الصلاة هي العبادة الجامعة لكل أنواع العبادات والطاعات من صوم وحج وإحسان وغيره؛ فالمصلي يقصد بيتًا من بيوت الله ليؤدي فيه الصلاة، كما يمتنع عن الطعام والشراب أثناءها، وما يفعله من حركات يُزكِّي بها عن نفسه، فضلاً عن أهميتها؛ حيث لم يفرضها الله على الأرض كغيرها من العبادات، وإنما فرضت في السماء بلا واسطة بين الله وبين المصطفى ﷺ، فضلاً عن كونها العبادة التي لا عذر في تركها، فضلاً عن كونها أكثر العبادات أداءً؛ فهي تُقام في شريعة الإسلام خمس مرات في اليوم والليلة باستثناء النوافل؛ لذا اختصَّها لقمان بالذِّكر.

ويُعلمنا لقمان في هذه الوصية أسلوبًا آخر من أساليب التربية، وهو أسلوب التعويد؛ وذلك من خلال أمر الأولاد بإقامة العبادات والطاعات قبل سنِّ التكليف؛ ليَعتادوها ويَألفوها، وكذا الحال مع شتى السلوكيات الإسلامية، وهذا هو مَقصد التربية، حيث يقصد منها جعل الأولاد يسلكون السلوكيات المنشودة تلقائيًّا، بحيث تصبح عادة لهم.