يمر اليمن منذ سنوات بأزمة اقتصادية خانقة تزداد تفاقمًا يومًا بعد يوم، نتيجة تداخل عوامل سياسية وأمنية واجتماعية داخلية وإقليمية. لقد أثرت الحرب المستمرة منذ عام 2015 تأثيرًا بالغًا على جميع مناحي الحياة، ولا سيما على الاقتصاد الوطني، حيث أنهكت مؤسسات الدولة، وتراجع الناتج المحلي، وانهارت العملة، وفقد المواطنون قدرتهم على تأمين احتياجاتهم الأساسية. ومع أن هذه الأزمة معقدة ومتشابكة، فإن التعامل معها يتطلب فهما عميقا لأسبابها الجذرية، ومقاربة متعددة الأبعاد تستند إلى التحليل الواقعي والموضوعي للمشكلات، وتقديم حلول مدروسة وشاملة قابلة للتطبيق.

فقد شهد الريال اليمني انهيارًا متسارعًا في قيمته الشرائية، حيث تجاوز سعر صرف الدولار في بعض المناطق حاجز 2700 ريال، وهو ما تسبب في ارتفاع هائل لأسعار المواد الغذائية والسلع الأساسية، في بلد يعتمد على الاستيراد لتأمين أكثر من 90% من احتياجاته الغذائية. وقد زاد من حدة الأزمة الانقسام المؤسسي الحاد، حيث يوجد مصرفان مركزيان في اليمن، أحدهما في عدن والآخر في صنعاء، ما أدى إلى ازدواجية السياسات النقدية، وإرباك في تحويل الأموال، وتعطيل نظام المدفوعات الوطني، مما انعكس سلبا على الاستقرار المالي وأعاق النشاط الاقتصادي.

وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 80 % من اليمنيين يعيشون تحت خط الفقر، فيما تجاوزت معدلات البطالة، خاصة بين فئة الشباب، حاجز 60 %، ما ينذر بكارثة اجتماعية واقتصادية حقيقية. وأصبح الاقتصاد اليمني شبه معتمد كليًا على المساعدات الإنسانية والإغاثية (التي يتم سرقتها من المتنفذين في الدولة و صرفها على مشاريعهم السرية عسكريًا وأمنيًا)، وذلك عبر استغلال انهيار القطاعات الإنتاجية وتوقف نشاط آلاف الشركات والمصانع بسبب الحرب. وقد ترافق هذا الوضع مع انكماش القطاع الخاص، وهروب الاستثمارات المحلية والأجنبية، مما أدى إلى تدهور الناتج المحلي وتراجع مستويات المعيشة إلى أدنى مستوياتها.

تكمن الأسباب الجذرية للأزمة الاقتصادية في اليمن في الفساد المستشري في مؤسسات الدولة اليمنية والذي يعد من أبرز العوامل التي تعيق أي محاولة لإصلاح الوضع الاقتصادي، حيث ينتشر الفساد المالي والإداري على نطاق واسع في الأجهزة الحكومية، مما يحول دون أي تطوير أو إعادة هيكلة اقتصادية حقيقية، ويؤدي إلى تسرب الموارد المالية، واختلال التوازن في توزيع الإيرادات. كما أن البنية التحتية المدمرة، من شبكات الطرق، ومحطات الكهرباء، والموانئ، والمطارات، والمدارس، والمستشفيات، تشكل عائقًا كبيرًا أمام أي عودة للنشاط الاقتصادي والإنتاجي.

وإضافة إلى ذلك، فإن غياب السياسات الاقتصادية الواضحة والمركزية، نتيجة الانقسام السياسي وفقدان القيادة الوطنية الموحدة، أدى إلى شلل في مؤسسات الدولة، وأفرز فوضى في إدارة الموارد. كما أن الاقتصاد اليمني كان، ولا يزال، يعتمد على النفط كمصدر وحيد للدخل، حيث شكلت مبيعات النفط قبل الحرب أكثر من 70 % من الميزانية العامة، ومع توقف الإنتاج والتصدير، فقدت الدولة المصدر الأساسي للإيرادات. وأدى انهيار النظام التعليمي إلى تراجع في تأهيل القوى العاملة، واتساع الفجوة بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل، ما زاد من صعوبة إنعاش الاقتصاد.

لذلك لابد من خارطة طريق شاملة للنهوض بالاقتصاد اليمني وهذا يتطلب النهوض بالاقتصاد اليمني أولًا إعادة توحيد المؤسسات المالية والنقدية، وعلى رأسها البنك المركزي اليمني، واستعادته كجهاز موحد ومستقل عن الصراعات السياسية. ويمكن في المرحلة الانتقالية وضع البنك المركزي تحت إشراف دولي لضمان الحياد والكفاءة. كما ينبغي إعادة بناء نظام المدفوعات الوطني، وتوحيد العملة، وتنفيذ سياسات نقدية مدروسة تركز على كبح التضخم واستقرار سعر الصرف، واستعادة الثقة بالنظام المصرفي.

إلى جانب ذلك، فإن إنشاء صندوق وطني لإعادة الإعمار يعد خطوة ضرورية، على أن يتم تمويله من المانحين، والقطاع الخاص، والإيرادات المحلية. ويتعين أن تدار موارده بشفافية تامة من خلال آليات رقابية محلية ودولية، وتوجيهه لإعادة بناء البنية التحتية الأساسية كالكهرباء، والمياه، والطرقات، وشبكات الاتصالات، وذلك لضمان استعادة الحياة الاقتصادية الطبيعية.

أما على صعيد القطاعات الإنتاجية، فمن المهم دعم الزراعة عبر توفير المدخلات الزراعية، والقروض الصغيرة، وشبكات ري حديثة، بالإضافة إلى تنظيم قطاع الصيد البحري، وتوفير وسائل حديثة للحفظ والتصدير، وضمان حماية السواحل. ويمكن إحياء قطاع الصناعة من خلال إنشاء مناطق صناعية حرة، وتقديم حوافز ضريبية، وتسهيل إجراءات الاستثمار أمام رؤوس الأموال المحلية والدولية.

كما أن إصلاح النظام الضريبي والجمركي بات ضرورة حتمية، حيث ينبغي توسيع القاعدة الضريبية لتشمل الاقتصاد غير الرسمي، ومحاربة التهرب الضريبي، وتفعيل أنظمة التحصيل الإلكتروني، وإصلاح المنافذ الجمركية. وبالتوازي مع ذلك، فإن تشجيع الاستثمار يتطلب بيئة قانونية وإدارية حاضنة، تبدأ بإصدار قانون استثمار حديث، يضمن حماية رأس المال، وتسهيل الإجراءات، وإنشاء هيئة موحدة لدعم المستثمرين.

وفي جانب الموارد البشرية، من الضروري إطلاق برامج وطنية للتدريب المهني والتقني، وتحديث المناهج التعليمية بما يواكب متطلبات سوق العمل، وتشجيع المبادرات الريادية، وتقديم التمويلات للمشاريع الصغيرة، بما في ذلك تمويل جماعي مدعوم من الدولة. وتعزيز الشفافية والحكم الرشيد يقتضي إنشاء هيئة مستقلة لمكافحة الفساد، وتطبيق نظام رقابة صارمة على كافة الوزارات، ونشر البيانات المالية والإدارية بشكل دوري عبر منصات مفتوحة.

ولتنشيط الاقتصاد المحلي والمجتمعي، يمكن دعم الصناعات الصغيرة والحرف التقليدية، وتفعيل الجمعيات التعاونية الزراعية، والمبادرات المجتمعية، بما يخلق فرص عمل ذاتية ومجتمعية، ويدعم الاقتصاد غير الرسمي. كما أن التحويلات المالية من المغتربين تمثل موردا مهما يمكن تعظيمه عبر إنشاء مؤسسات تحويل موثوقة برسوم منخفضة، وتوجيه جزء من هذه التحويلات للاستثمار في مشاريع وطنية إنتاجية. كما أن دمج الاقتصاد غير الرسمي في المنظومة الرسمية يجب أن يكون من أولويات المرحلة المقبلة، عبر تبسيط إجراءات التسجيل التجاري، وتقديم الحوافز للمنشآت الصغيرة غير المسجلة لتشجيعها على الاندماج في الاقتصاد الوطني.

أيضاً يتعين أن يتجاوز الدعم الدولي لليمن حدود المساعدات الإنسانية الطارئة، ليتحول إلى شراكة تنموية حقيقية. ويشمل ذلك تقديم الدعم الفني والتقني من قبل الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي لتأهيل المؤسسات اليمنية. كما يمكن تمويل مشاريع البنية التحتية عبر شراكات متعددة الأطراف تخضع لرقابة وإدارة شفافة. ومن المهم أن يمارس المجتمع الدولي دورا فاعلا في الضغط من أجل الوصول إلى تسوية سياسية شاملة، باعتبار أن الاستقرار السياسي هو الحاضنة الأساسية لأي خطة نهوض اقتصادي مستدام

إن الخروج من النفق الاقتصادي المظلم الذي تمر به اليمن ليس مستحيلًا، لكنه يتطلب إرادة سياسية صادقة، ورؤية اقتصادية شاملة، واستعدادًا وطنيًا لتوحيد الجهود، وشراكة حقيقية بين الدولة والمجتمع والقطاع الخاص، ودعمًا دوليًا مسؤولًا ومتزنًا. اليمن يمتلك من الموارد الطبيعية، والموقع الجغرافي الاستراتيجي، والطاقة البشرية، ما يجعله مؤهلًا للعودة إلى مسار النمو، إذا ما توفرت له القيادة الرشيدة، والرؤية الواضحة، والظروف الآمنة.