لعبت الصحافة الجنوبية على مدى مراحلها التاريخية والنضالية دورًا وطنيًا بارزًا وتأثيرًا واسعًا في صناعة الرأي العام، وشكلت أداة فعالة في زعزعة أركان الفساد والاستبداد السياسي، ومواجهة الأنظمة الشمولية والديكتاتورية.
في هذا المقال لا نتحدث عن حقبة ما قبل تحقيق الوحدة اليمنية بل عن دور وتأثير الصحافة الجنوبية خلال فترة ما بعد الوحدة، حيث أسهمت في تشكيل طفرة إعلامية عززت الديمقراطية وحرية التعبير، وبلورت رأيًا عامًّا واعيًا في مواجهة الواقع بكل ما كان يحمله من مساوئ وسلبيات، وقمع وترويع.
من بين الصحف الأهلية الجنوبية التي كان لها تأثير كبير على المشهد السياسي والاجتماعي في عدن منذُ عودتها إلى الساحة الإعلامية مطلع تسعينات القرن الماضي، تبرز صحيفة "الأيام" العريقة، التي أسسها الراحل محمد علي باشراحيل، ونجلاه هشام وتمام، والتي مثلت منارة للنضال الوطني، وأسهمت في تشكيل وعي جماهيري واسع ضد الظلم والفساد، لتتعرض إلى إغلاق غاشم في مايو 2009م نتيجة آلة القمع السياسي والأمني التي استهدفت مقرها بمدينة عدن بالرصاص وقذائف (الآر بي جي)، نتيجة مواقفها الوطنية، ومناصرتها للقضية الجنوبية.
كما برزت صحيفة "الطريق" التي يرأس تحريرها أيمن محمد ناصر، كواحدة من الصحف الأهلية الجنوبية التي نشطت في مواجهة نظام ما بعد حرب 1994م، حيث خصصت الصحيفة صفحاتها لدعم القضية الجنوبية، واحتضنت كتابات جريئة ضد النظام السياسي.
صحيفة "الحق" بقيادة ناشرها ورئيس تحريرها الراحل عبد اللطيف كتبي عمر، كانت أيضًا من الصحف المستقلة البارزة التي واجهت مراكز قوى الفساد والهيمنة بشفافية وشجاعة مما أكسبها ثقة القراء، وأسهمت في تشكيل رأي عام ناقد لنظام ما بعد عام 1994م.
أما المجلة الساخرة "صم بم" التي أسسها الصحافي الراحل عصام سعيد سالم، فقدمت نموذجًا فريدًا للنقد الساخر، وكانت تتناول بالنصوص والصور الكاريكاتورية الساخرة قضايا الفساد والفاسدين بأسلوب جريء ومميز.
على مستوى الصحف الحزبية الجنوبية، كانت هناك صحف بارزة مثل "الثوري" الناطقة باسم "الحزب الاشتراكي اليمني"، وصحيفة "التجمع" الناطقة باسم حزب "التجمع الوحدوي اليمني" الذي أسسه المناضل والمفكر السياسي الراحل عمر الجاوي، وصحيفة "رأي"، الناطقة باسم "رابطة أبناء اليمن – سابقًا"، هذه الصحف تميزت بأسلوبها السياسي القائم على فكر نخبة من الكتاب والمفكرين المخضرمين، مما أسهم في صياغة رأي عام ناضج ومؤثر على الساحة السياسية والاجتماعية.
إلى جانب العديد من الصحف الجنوبية، سواء المستقلة أو الحزبية، التي اعتمدت على منهجية صحفية مهنية وكفؤة، وامتلكت مشروعًا وطنيًا حقيقيًا ورسالة إعلامية مميزة، هذه الصحف مارست مجتمعة دورها كسلطة رابعة، وأسهمت في التأثير على صناعة القرار، وتغيير العديد من السياسات والقرارات الخاطئة يومها.
قبل عام 2011م كانت الصحف الجنوبية تمارس دورها كمؤسسات متكاملة، حيث امتلكت بعض الصحف منتديات ثقافية وإعلامية كصحيفة "الأيام" المستقلة اجتمعت فيها النخب السياسية والفكرية والمدنية لمناقشة القضايا العامة، واستنباط رؤى وأفكار تحولت إلى تقارير إعلامية ومقالات تحليلية قائمة على الدراسات والوثائق والأرقام، مما ساعد في بلورة الرأي العام، والتأثير على القرار السياسي، وكشف الكثير من الحقائق والوقائع.
رغم ذلك، حاول نظام صنعاء تقليص تأثير الصحف الجنوبية عبر استحداث صحف جديدة في عدن وحضرموت، مثل "أخبار اليوم" و"أخبار عدن"، بهدف إلغاء دور الصحف الجنوبية المؤثرة، أعقبها قرارًا بإلغاء تصاريح ست صحف مستقلة في سنة 2009م، كانت من بين الأكثر تأثيرًا وقوة في الساحة الإعلامية.
بعد عام 2011م واجهت الصحافة الجنوبية المؤثرة تحديات وانتكاسة كبيرة، أبرزها التهديدات الأمنية وصعوبة الإمكانيات، ما أدى إلى توقف العديد من الصحف عن النشر، وهو ما أسهم بظهور أقلام جديدة تفتقر إلى المهنية، واعتمدت على الولاءات المناطقية، والأدوات المهنية الركيكة، مما أدى إلى انحراف الإعلام الجنوبي عن مساره المهني، وتخليه عن القيم والأدبيات والضوابط المهنية بانحيازها إلى أشخاص وجهات ممولة على حساب القضية الأساسية.
لهذا.. فإن تصحيح أوضاع الإعلام الجنوبي بات ضرورة ملحة، يتطلب الأمر إلى إعادة ضبط الخطاب الإعلامي الجنوبي، وتعزيز استقلاليته، وتشجيع المفاهيم الصحفية الواعية، مع ترتيب الأولويات الوطنية بلغة مهنية وحصيفة تخاطب العالم المتحضر بلغة أكثر حضارية حول عدالة القضية الجنوبية، ومشروعية شعبها، باعتبارها قضية شعب ووطن، بعيدًا عن الخطابات السطحية والمهاترات المناطقية، التي ما انفكت تكرس لغة الجهل والانقسام الداخلي، وتظهر الكثير من نقاط الضعف في منظومة الإعلامي الجنوبي الحالي.